لم يعتد أحد تفقد أوضاع مغاسل الموتى، إلا إذا اشتد الأمر، فبعضهم ربما لا يجرؤ على الاقتراب منها، فإذا فقد عزيز، ارتمى في أحضان جدرانها الخارجية، وفيه ما يكفيه للابتعاد عنها. وبعضهم الآخر يجرؤ على الوصول إليها، لكنه لا يجرؤ على تفقدها لاحقا، ليمر عليها بعد انتهاء مراسم دفن ميته مرور الكرام، فيبقى الحال على ما هو عليه. فيما الفئة الأكثر التصاقا بالمغاسل، هم القادرون والذين اعتادوا مثل تلك المواجهة، يقتربون ويعرفون أنهم يكتوون بنيران الاقتراب، وأحيانا تواجه ذاكرتهم المآسي، كما يعانون الزحام فيما أملهم تحسن الوضع وزيادة المغاسل بدرجة لا تنهكهم نفسيا ولا معنويا، فيكفيهم ما فيهم. القائمون على أمر المغاسل في بقاع المملكة، أشخاص لا يبتغون إلا الأجر من الله تعالى، يعرف الجميع ما يقدمونه من خدمة عظيمة، ومع ذلك لا يعرفهم أحد في أحلك الظروف أو أفضلها. يعرفهم الجميع ويهرعون إليهم، لكن ذاكرتهم لا تجرؤ على تذكرهم، مع انتهاء مراسم الدفن أو بالأحرى الغسل. في أضيق الظروف التي لا يستطيع فيها أي شخص منا التصرف عندما يفقد عزيزا عليه، يهبون لاستقبال الجثة لغسلها ودفنها أيضا. في مدينة جدة ينتشر العديد من المغاسل التي يعرفها كثيرون ويجهلها كثيرون أيضا، في إحداها، وتحديدا في مغسلة مسجد الغيث الكائنة في حي النعيم، كان يقف مغسل الجنائز الشيخ فيصل عبدالعزيز، يعرف معنى الغسل، ويتعرف على معنى الألم والمعاناة، ويدرك معنى الصبر، لكنه يعي جيدا أيضا حجم العمل «عادة ما نستقبل الجنائز عن طريق المستشفيات، فعندما تحدث حالة وفاة في المستشفى، يعطي موظفو ثلاجة الموتى ذوي المتوفى أرقامنا للتواصل معنا، كما أننا نوزع كروتنا وأرقامنا في جميع مستشفيات جدة، وبيننا وبينهم تواصل وتعاون إلى حد كبير، بالإضافة إلى الإعلانات الموزعة في جميع الأحياء». ولكن فيصل يلمح إلى انتقاد المستشفيات «مع العلم أن هناك مغسلة في كل مستشفى، ولكن لا تتكفل بنقل الجثة، ولذلك يفضل الكثير من الناس التعامل مع المغاسل الخارجية، بعد ذلك ننتقل إلى المستشفى لتسلم الجثة بسيارة الجمعية، وهي مجهزة بالكامل لنقل الجثث، إلا أنه يجب توافر عدة اشتراطات عند تسلم أي جثة، ومنها خطاب تبليغ الوفاة، ويتضمن سبب الوفاة، وكذلك خطاب السماح بالدفن، أما الأجنبي فلا بد أن يراجع سفارته ويحصل على الإذن من ذويه بدفنه هنا في المملكة». بداية المهمة وما إن يتم تسلم الجثمان، حتى تبدأ المهمة، التي يرفض فيصل وصفها بالصعبة، كما يتحفظ على نعتها بالسهلة «ننقل الجثة من المستشفى إلى المغسلة، ونغسلها ونجهزها، ثم ننقلها إلى المقبرة التي يختارها ذوو المتوفى، فلا يوجد تقسيم للمقابر على حسب الأحياء، وإنما برغبة أهل المتوفى، وهناك من يريد أن تكون الصلاة عليه والدفن في مكةالمكرمة، فنوصلها إلى هناك، وفي بعض الأحيان لا يكون لدى أهل المتوفى دراية كاملة بالمقابر، أو يكونون من خارج المنطقة، فننصحهم ونقودهم إلى مسؤول المقبرة، ويكون هناك اتصال مباشر بينهم، وهذه الخدمة توجد في جميع المغاسل، وبعض ذوي المتوفين يذهبون إلى المقبرة قبل الغسيل، ويتم التنسيق مع مسؤول المقبرة، والمقبرة تكون مفتوحة أثناء فترات الصلوات الخمس، كما أن هناك اتفاقات بيننا وبين مسؤولي المقابر لكيلا يكون هناك أي اختلاف». على مدار الساعة وربما لا يعرف الكثيرون أن المغاسل تعمل مثل طوارئ المستشفيات، على مدار الساعة «نستقبل الاتصالات خلال ال 24 ساعة، ولا يوجد هناك موعد محدد للمغسلة، أما عن أكثر الحالات فهي متفاوتة، فمنها ما يكون عن طريق حادث مروري، ومنها ما يكون عن طريق المرض أو وفاة طبيعية، لكن معدل الجثث اليومي في المغسلة يتراوح ما بين أربع إلى خمس جثث يوميا، وتشمل الجنسين، إلا أن أكثر الشهور التي نشهد فيها ضغطا كبيرا على المغاسل، تشمل شهر ذي الحجة ورمضان وشوال». 6 مغسلين وبين فيصل أن عدد العاملين في المغسلة ستة أشخاص «ثلاثة ذكور وثلاث إناث»، ولا يوجد هناك تدخلات من أهل المتوفى أثناء الغسيل إلا نادرا جدا «وضعهم الحزين لا يسمح لهم بالمجادلة أوالحديث الكثير، لذا فهم متعاونون إلى أبعد الحدود، ولا يتدخلون في أمر الغسل نهائيا، ومن الضروري أن يدخل واحد أو اثنان من ذوي المتوفى معنا أثناء الغسيل، ليساعدوا المغسل في عملية الغسيل، لكن المشكلة ليست في عدد المغاسل لأن عددها أكثر من عشر مغاسل في مدينة جدة، ولكن المشكلة أنها محصورة في مكان واحد، فمثلا لا يوجد في شمال جدة إلا مغسلتان، والبقية تقع في جنوب وشرق جدة، ومع ذلك فإن هناك تعاونا كبيرا فيما بيننا، بمعنى أنه لو كانت هناك حالات زائدة فيتم التواصل بيننا». شروط المغسل وشدد فيصل على شروط لا بد من توافرها في المغسل، تشمل الأمانة وحفظ حرمة الميت «دائما نوضح لأهل المتوفى أنه لو ظهرت أي علامات لسوء الخاتمة للمتوفى، فإنها تدفن في هذا المكان، ولا يجوز تناقلها حرصا على شعور ذويه، ونحن كمغسلين عندما نذكر حالات معينة فلا نذكر اسمها، أو أي شيء تعريفي بها، كما ينبغي على المغسل الحرص من بعض الأمراض المعدية التي كان مصابا بها المتوفى، ومنها الكبد الوبائي, والإيدز، والكوليرا، ونتعامل معها بحذر». ابتسامة ميت وذكر فيصل أن هناك مواقف كثيرة تمر بالمغسل «من هذه المواقف، أنني استدعيت من قبل أحد المغاسل، في ظل التعاون، فنحن إذا كان لدى أحدنا في مغسلته ضغط، نستعين ببعضنا، وذهبت إلى تلك المغسلة، وعندما دخلت، وجدت رجلا لا يرى عليه علامات الالتزام، من لحية وغيرها، فغسلته، ومن المعروف أن الشخص إذا توفي وانقطع الدم منه تتغير ملامح وجهه، ولكن هذا الرجل لاحظت فيه أن ملامح وجهه كما هي، لدرجة أن لو رآه شخص غريب يعتقد أنه نائم، وليس ميتا، وعندما نقلته من حوض الغسيل إلى مكان الكفن، ظهرت على محياه ابتسامة غريبة جدا، وكأنه يضحك، فيما بادر أحد أقاربه الموجود معنا في المغسلة بإغلاق فيه، ولكن لم يلبث إلا وعادت الابتسامة مرة أخرى، فتركناه كما هو، لكنني بالاستفسار من أقاربه عرفت أنه كان يؤدي العمرة أربع مرات في الشهر، وتوفي في حادث سيارة وكان وقتها صائما». تساقط لحم الفتاة ويتذكر المغسل فيصل إحدى الحالات الأخرى التي غسلها «تلقينا اتصالا من أحد المستشفيات لتسلم جثة لتغسيلها، وبالفعل ذهبنا بسيارة المغسلة لتسلمها، وعلمت من ذويها أنها مكثت في ثلاجة الموتى قرابة عام كامل لعدم قدرة أهلها على دفع تكاليف المستشفى الخاص، لأنها تعرضت إلى حادث سير، وقضت قرابة ثلاثة أشهر في المستشفى، ودفع أحد فاعلي الخير بعد ذلك تكاليف المستشفى لتدفن، وعندما نقلناها إلى المغسلة غسلتها إحدى المغسلات، وإذا باتصال من المغسلة بعد نصف ساعة، لتخبرني أنها لا تستطيع مواصلة الغسل، لأنها عندما تضع الماء على جسد الفتاة يتساقط اللحم، فاستنجدنا ببعض المغسلات لمساعدتها». ويتذكر موقفا تعرض له زميله في المغسلة «حيث طلب منا المستشفى تسلم جثة، فذهبنا وقابلنا ذوي المتوفى، ودخلنا إلى الثلاجة لتسلمها وعندما فتح زميلي باب الثلاجة لاستخراجها لم يجد شيئا، فسأل الموظف عن الجثة فأبلغه بوجودها في كيس صغير آخر الدرج، وبالفعل استخرجها، وعند الذهاب لغسلها وجد أشلاءها، كلا على حدة». وشم ضد القبلة ويشير إلى أنه من المواقف التي لا ينساها «غسلت شابا في العشرينات من عمره وشاهدت وشما على يده وبه صورة امرأة بكامل تفاصيلها، وعندما نضعه جهة القبلة ينقلب إلى عكسها، وعدلناه أكثر من مرة، ولكن يعود كما كان، وتركناه كما هو وأكملنا الغسيل»، مبينا أنه ترد إليهم جثث متحللة أو يكون توفي أثناء العمليات الجراحية، وتكون خياطة البطن ليست دقيقة كالتي تعمل للأحياء، وهناك مصابون بفشل كلوي وحوادث مرورية «كل هذه الحالات لا يتوقف نزيف الدم، فنضطر إلى المكوث عدة ساعات حتى يتوقف النزيف، لأنه لا يجوز التكفين والجثة بها آثار دم، ولا يجوز الدخول بها إلى المسجد، لأن الكفن يعد نجسا». لكن فيصل فضل التأكيد على جميع المسلمين «أريد أن أقدم نصيحة للكل، ينبغي على كل شخص منا أن يكون على دراية بالغسل لأنه من الأولى أن يغسل الميت أهله وأقاربه» .