حداثتنا لا تشبه أية حداثة سابقة عليها. كنا غارقين حتى الآذان في التقليد والمحافظة، وفجأة جادت علينا الأرض بذهبها الأسود فقفزنا خطوات بعيدة إلى الأمام على جميع الأصعدة، وبالذات الصعيد الثقافي، إذ ساهمت البعثات الدراسية إلى الخارج، والانفتاح على الثقافة العربية والغربية، في إعادة النظر في منجزنا الأدبي وتقييمه، مقارنة بما ينتجه الآخر العربي على صعيد الأدب، والشعر تحديدا، وبدأنا في محاكاة ما يكتب في المراكز العربية، وكلما انتقلوا إلى مرحلة كنا لا نزال نخوض في المرحلة التي تسبقها. كانت المدارس الشعرية الأكثر وضوحا في تتبعنا لخطى شقيقنا العربي، من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى النص الحديث. وبلغت الحداثة أوجها في فترة الثمانينات، على يد شعراء أنجزوا نصوصا شعرية ناضجة وموازية لبعض ما يكتب عربيا باسم قصيدة التفعيلة، ورافق هذا المد الشعري مد نقدي مماثل ضجت به الصحف ومنابر الأندية الأدبية، ثم تحول إلى صراع شرس مع التيار التقليدي المحافظ، بإيمان مطلق من قبل الحداثيين بالقيم الجمالية الحديثة في النص الشعري، ورفض مطلق أيضا من قبل بعض المنتمين إلى الذائقة التقليدية المحافظة لتلك القيم. وكان المتلقي العادي ضحية هذا الصراع والجدل البيزنطي، أحيانا، بين المناهضين لحداثة النص والمنافحين عنه. وفي المقابل كانت المؤسسات التعليمية سلفية في تلقينها للنص الأدبي، مما يبرر ذلك العداء والرفض من قبل الذهنية المحافظة، التي فوجئت بالطوفان الحداثي دون أية مقدمات نظرية مبسطة، تساعد على مقاربة النص الشعري الغامض والغارق في رمزيته. تصدى النقاد الجدد، وبحماسة شديدة، لمهمة تأويل النصوص الشعرية؛ ففسروا الماء بعد الجهد بالماء، من خلال تأويلاتهم الشخصية للنصوص، وترديدهم لمقولات وأفكار اطلعوا عليها في الكتب المؤسسة للحداثة العربية والغربية، وكان البعض منهم يواجه الخصوم بالتقريع واللوم؛ لعدم فهمهم لما تنطوي عليه الحداثة الشعرية من نفخ روح جديدة في الشعر العربي، وأن ما يكتب باسم الحداثة هو المآل الطبيعي للنص الشعري العربي. هذه الهبّة الحداثية كانت لها تقاليدها، في تنظيم الأمسيات الشعرية وتعزيزها بالنقاد، وفي تنادي الحداثيين من أنحاء المملكة لحضور أمسية شعرية، لها مدير يوزّع الأدوار ويفرض النص على الجمهور بالقوة «الأكاديمية»؛ فإما أن تفهم وتتفاعل مع ما يطرح وإما أن يشعر المنظمون بخيبة أمل تجاه وعيك وأسئلتك الساذجة، حول معاني بعض النصوص والرموز التي تحيل عليها، مع ترك هامش بسيط للطرف المناهض في آخر الأمسية؛ ليدلي برأيه من قبيل فتح باب الحوار معه ومحاولة تقريب وجهات النظر. تنبّهت إلى ذلك أثناء مشاهدتي ليوتيوب أمسية شعرية أقيمت في منتصف الثمانينات، وبالتحديد في نادي جدة الأدبي، وراعتني صرامة مدير الأمسية الشبيهة بصرامة قائد عسكري يرفع شعار: (من ليس معنا فهو ضدنا)، ومقاطعته لبعض المتداخلين وتسفيهه لبعض الآراء المخالفة؛ مما جعلني ألتمس بعض العذر للطرف المحافظ، الذي واجه تلك الصرامة بصرامة أشد؛ فالتطور الطبيعي لأي فن من الفنون يأتي استجابة للمتغيرات المادية والاجتماعية والثقافية، كما حدث مع الرواية السعودية أواخر التسعينات وبداية الألفية، دون الحاجة إلى التلويح بأية قوة، حتى إن كانت ناعمة، في فرض التحديث الفني. * شاعر سعودي