يقول ابن الدمينة مخاطبا الحبيبة معبرا لها عن شدة تعلقه بها وعجزه عن الصبر على فراقها: (وقد أردت الصبر عنك فعاقني،،، علق بقلبي من هواك قديم) نحن لا ندري ما سبب الفراق بين ابن الدمينة والحبيبة، إلا أننا نراه في بيته هذا مستسلما، متوجدا، كاشفا كل أوراقه بكل شفافية ووضوح. هو يعترف أنه لم يعد قادرا على تحمل فراق الحبيبة، وأن كل محاولاته في التلهي والتناسي باءت بالفشل، لكنه يتحجج لذلك بأن حبه للحبيبة قديم العهد، فبقيت آثاره ناشبة في شغاف القلب، لا يمكن اجتثاثها ولا أمل معها في الصبر على الفراق وتحمل عذاب الابتعاد. ما يشعر به ابن الدمينة من تعذر الصبر عن مفارقة حبيبته، ليست حالا خاصة به وحده، هي حال كل قلب نبض يوما بحب صادق، بل إنها حال عامة لا تتوقف عند علائق الحب بين البشر، وإنما تمتد لتشمل علائق الحب بين الإنسان والأشياء، هناك من الناس من يحس أحيانا بما يشابه إحساس ابن الدمينة عند فراقه شيئا أحبه واعتاد صحبته زمنا طويلا، وربما بلغ به الشعور بالجزع لمفارقته قدرا مماثلا في قوته لو أن المفارق كان واحدا من أحبته. أعرف صديقة كثيرا ما تشكو لي من أنها عجزت عن إقناع أمها بمغادرة البيت القديم إلى مسكن آخر جديد تتوفر فيه سبل الراحة لها بصورة أفضل، فالأم مصرة على رفض الانتقال والتخلي عن بيتها الذي ألفته، وأحبت العيش فيه، وضمت جدرانه ذكرياتها بما فيها من بيض الأيام وسودها. وما زلت أذكر ما أصابني من ضيق وكدر قبل بضع سنوات، عندما انتقلنا من بيتنا القديم إلى آخر جديد، فرغم أن البيت الجديد أكبر وأجمل، إلا أن ارتباطي بالبيت القديم كان كبيرا لما نسجته الأيام بيننا من وشائج الألفة الطويلة، وبدلا من الاستمتاع ببهجة الانتقال إلى بيت جديد كما هو متوقع، وجدتني أغرق في الحنين لبيتنا القديم فأورثني ذلك شعورا بالاكتئاب ظل يلازمني شهورا طويلة. وغني عن القول، إن التعلق بالأشياء، ليس دائما وليد الارتباط العاطفي، أحيانا يكون التعلق بحكم التعود لا أكثر ولا أقل، كمن يعتاد احتساء القهوة مع إشراقة النهار، أو تدخين سيجارة قبل أن ينهض من الفراش، فتصير تلك العادة بالنسبة له توأم الراحة والأمان، متى قرر التخلي عنها، شعر بالضياع بدونها، وانتابه الاضطراب في برنامج يومه، وسرعان ما تنهار مقاومته ليعود مستسلما إلى عادته التي أمضه فراقها ويئس من قدرته على الصبر عنها. فراق من نحب وما نحب، مفزع حقا، ومؤلم حقا، ولا نملك إلا التعاطف مع تلك القلوب الشفافة الوفية.