هل قدر علينا أن نظل في شوق دائم ومتصل إلى ماضينا؟ إن قناعتي كبيرة بأن الحاضر ينبغي أن يكون أكثر إشراقا من الماضي، وأوفر حظا في مراقي التقدّم والازدهار، استنادا إلى التجارب المستفادة، والقيم المضافة، والتطوّر الحتمي.. لكنني رغم قناعتي، أجدني مشدود الخاطر إلى الماضي في ما يتصل بحياتنا الاجتماعية والثقافية تحديداً، فعندما كنّا على مقاعد الدراسة بمراحلها المختلفة، كنا نأخذ الاستعدادات بعد عام مضنٍ من الكدح الأكاديمي، والاجتهاد الدراسي، إلى ترتيب أمورنا لاختتام فعاليات أنشطة العام كله، نمضي أياما في التجهيزات، واختيار فرق النشاط لتقديم فقراتها المختلفة من المسرح إلى الموسيقى إلى الرسم والتصوير والنحت والثقافة والصحف الحائطية والكشافة، الكل يتسابق لتقديم ما لديه وإثبات وجوده وتفوقه. ذكرت البلاد في العام 1385ه شهد سمو الأمير مشعل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة آنذاك حفلا ثقافيا لمدارس الفلاح حيث طاف بالمعرض التقني ثم انفرج الستار عن فرقة الأناشيد ثم ألقيت قصيدة شعرية ثم قام الطلبة بتمثيل مسرحية تلاها طالبان بتقديم تمثيليتين وقامت الإذاعة بتسجيل الحفل وسط حضور للطلبة وأولياء أمورهم. دون أن تكون هناك «أجندة» أو«برنامج» مستورد أو منهج خفي يطبق علينا وتحشى به أدمغتنا، وتُغير به نفوسنا، كنا طلبة علم نمارس لهوا بريئا، وثقافة حقيقية، تجد مواهبنا طريقها للظهور، فيغني من حسن صوته، ويشدو بالشّعر من عرف نظم القوافي، وأمتعنا بتمثيله من عشق المسرح والتمثيل، نتنافس فيما بيننا، في السباحة وكرم القدم والطائرة، والتنس، وألعاب الذكاء المختلفة.. لانفوّت فرضا، ولا ننسى قرآنا دون أن يكون في ذلك مبتغى غير تحقيق الغاية بإراحة الذهن والمتعة الحلال والاستمتاع بالحياة دون غلو وشطط.. هكذا كنّا حين كان المجتمع على فطرته وسجيته، قبل أن تفد عليه الأيديولوجيات القطبية والسرورية المستوردة، بأفكارها التي غلت واشتطت وبدّعت وكفّرت حرّمت الحلال وجعلت من العادة عبادة وفق رؤيتها الأحادية فاختفت الأنشطة المدرسية وجفت منابع الثقافة وحلت محلها المخيمات الدعوية، يتحدث المقيمون عليها بلسان غير الذي نعرف، ويديرون نشاطًا غير الذي عهدناه في حياتنا. دخل علينا مدّعو «الصحوة» من باب الدّين، وإنّه لباب عزير على النّفوس المجبولة على محبّة الإسلام ورسوله الأمين، فأسلمت الأسر أبناءها لمنادي «مخيمات الصّحوة» المفخخة في غياب الأنشطة المدرسية والمنابع الثقافية، زجّت بهم في معاطن آسنة لقوم استهدفوا عقول الصغار فاستبدلوها بألغام من غليظ القول، وناشز الفكر، وغالي الآراء.. فانفلت الأبناء من بين يدي الآباء، وتعالت أصواتهم بتكفير النّاس، والخروج على كل ذي سلطان، ولم يسلم من أذاهم وفجورهم صغير أو كبير، وعرف مجتمعنا سمتا جديدا للتدين، وصورة مغايرة لرجال الدين.. وجوه مكفهرة، وعبوسا يحتقر الحياة، وادعاء للدين بغير علم واستنارة وبصيرة هادية، وكأنهم لم يمرّوا بالآية الكريمة المحددة لأسلوب الدعوة وطريقة الإرشاد «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».. لو أنّهم تدبروا آيات الرّحمة وفقهوا السيرة المحمدية العطرة، لأدركوا أنهم يديرون ظهورهم للدين، وليسوا هم بمستقبليه، ناهيك أن يكونوا دعاة له.. كان متبدأ الشرِّ في تلك المخيمات، غلافها الدين زورًا، وجوفها الحقد ينمو، والكراهية تعشب، والغلظة تستطيل وتثمر.. أحكم «الصحويُّ» قبضته على عقل الطّفل ببثّ سمومه في غفلة عن أب، واطمئنان من أم، حشا قلبه بالمنكرات من الأفكار، فكم من طفل صغير وصبي غرّ عاد من تلك المخيمات بوجه عبوس مغيّر، وأفكار متجهمة بغيضة، يفسق أهله، ويعتزل ما هم فيه، ويكثر من الاختلاء بنفسه، وفي داخله تمور وتكبر بذور «الزقوم» التي جاء بها من «المخيّم»، حتى تنفجر بثمارها المقيتة، ليتأذى منها وطن أعطى بلا منٍّ، وأسرة ظنّت أنها أحسنت التربية، وأنارت الطريق لأبنائها بسلوك طريق الدين والهداية، فإذا المحصلة ضياع الدّنيا وفساد الآخرة.. غفلة كبيرة أورثتنا ما نحن فيه اليوم.. ما كان أجدرنا بأن نمحّص ونراجع صوت الداعي ب «الصحوة» ومنظريها، ونبلو المرامي والأهداف قبل أن نسلم صغارنا لهم.. فليس من المقبول اليوم أن نغفل عن أبنائنا، أو أن نتغافل عن أيّ جديد غريب يطرأ على سلوكهم وأفكارهم، علينا أن نسائلهم عن مصدر التلقّي، ومورد الاستقاء، وقبل ذلك علينا أن نراجع هذه المثابات المشرعة لتعليم الأبناء سواء أكانت نظامية أو أهلية، ونقف على حقيقة ما يقدم فيها، ومدى مطابقته للنهج المرسوم والمرتضى من قبل دولتنا الفتية.. إنّ المراجعة المستمرة لأحوال أبنائنا وبناتنا ستكشف لنا بصورة جلية أحوالهم الفكرية والرؤيوية والنفسية، وفي ذلك ما يسهّل علينا فرص التقويم والإرشاد قبل استفحال الأدواء، كما أنّه سيكون باعث ردع لكلّ شخص مريض تزيّن له نفسه سرقة أبنائنا من بوابة الديّن، فتلك نافذة نفتحها بوعي، ونراقبها بما يضمن لها تحقيق الغايات النبيلة، وليس الأجندات المفخخة والمناهج الخفية. وليت وزارة التعليم تبعث هذه الأنشطة من مرقدها لتشغل وقت الطالب وفكره حتى لا يملأ فراغه شيطان مارق.