لا يكاد يمر موسم أو مناسبة ثقافية دون أن تتعالى أصوات بعض المثقفين ناقدة وناقمة. وربما وصلت بالبعض إلى التجني وإطلاق الاتهامات على الآخرين، ما يوحي بوجود خلل ما في الرؤية أو في آليات العمل الثقافي. ويظل أعضاء المؤسسات الثقافية في حرج كبير، فالدعوات للمناسبات توقعهم في مأزق غضب الذين لم يدعوا. والبعض ممن يدعى يرى أن مقامه أعلى ممن سيشاركونه فعالية أو أمسية فيحجم عن الحضور. ويرى مدير فرع جمعية الثقافة والفنون في جازان عبدالرحمن موكلي، أن المثقف بشر يعتريه ما يعتري الآخرين من حالات مزاج حاد أو نرجسية مرهفة، إلا أن هناك مبررات للصراع والخلاف كأن تنتهك الأنظمة أو تتم مخالفة لائحة أدبية أو يقع تطاول على المثقفين باسم الثقافة. مشيرا إلى أن التاريخ يعج بالخلافات والصراعات عبر مئات الأعوام التي دافعها في غالبها ذاتي وإن لبست لبوس الموضوعي. ولا يرى موكلي بأسا إن أسهمت في الحراك دون سوء نية أو تجاوز لفظي. ويذهب الناقد الأكاديمي في جامعة الباحة الدكتور سعيد بن علي الجعيدي، إلى أن الشخصنة إحدى أسباب الصراعات التي يؤثر أن يطلق عليها مصطلح (الجدل)، مشيرا إلى أن البعض يرى أنه أحق وأولى من الآخرين حضورا ومشاركة محليا وخارجيا. مؤكدا أن الصراع يراوح بين الحقيقة وبين الوهم بحكم طبيعة المثقف ووعيه بالثقافة. ولا يستبعد الجعيدي أن تكون بعض الصراعات مفتعلة، مؤملا أن يدفع الجدل الواعي إلى الحوار الحضاري أسوة بما يقع عند أمم متحضرة من حوارات منفتحة تثير جدلا يفضي إلى حراك وتفعيل دور المؤسسات وتنمية الوعي. ووصف بعض المثقفين من هواة الصراع بالقلة المشاكسة. وعزا إلى طبيعة الثقافة والفكر إثارة الجدل، كون المثقف والمفكر يعيش جدلا مع نفسه ويقع في صراع مع الذات وتحديات التطلع والواقع. وأبدى الجعيدي تحفظه على الصراع الذي يعمل على شيطنة الآخر، أو يقع امتثالا للاستقطاب، أو يدفع إلى النظر للمختلف نظرة دونية، أو ينطلق من منطلق الوصاية. ويؤكد المؤلف والمخرج المسرحي محمد بن ربيع الغامدي، أن هناك نتاجا فكريا يثير الذعر وهناك غيره تثير الحفائظ تحت أي صفة كانت فيحتدم الجدل وتقوم المعركة التي يصنفها بعض المتفائلين تحت مسمى النقد ونقد النقد، ويسميها عموم المتابعين باسم المعارك الأدبية. ويرى أنه يمكن أن نعتبرها مجرد اختلاف رأي يفضي إلى محصلة تربوية وفكرية تثري التراث الإنساني كما حدث في الخصومة الأشهر بين فولتير وروسوأو ألبير كامو. وأضاف: تلك الصراعات لا يمكن التعامل معها إن كانت منتجة إلا ضمن الرأي والرأي الآخر، واحتدامها بين اثنين أو بين فريقين يدل على جو صحي شجع على الاختلاف وعلى الجهر به. ويذهب إلى أن هذا هو الحال في مقارعات الحكمة التي كانت تنشأ في الحضارات القديمة عبر عصور التاريخ المتلاحقة. ويستعيد مشاهد الوسط الثقافي السعودي الذي قامت فيه معارك كثيرة من ذلك الطراز كالمعركة حول جيم جدة عندما تباينت الآراء حول حركتها بين الكسر السائد عند الناس وبين الفتح السائد في مصر، وبين الضم الذي تجمع عليه كثير من الشهادات اللغوية والتاريخية، مستعيدا رأي عبد القدوس الأنصاري الذي يرى (أن الضم أولى وأورد عددا كبيرا من الشهادات اللغوية والتاريخية جاء بها من بطون الكتب). ثم سايره في ذلك أبو تراب الظاهري، فأضاف إلى شهادات الأنصاري مزيدا من الشهادات، وانضم إليهما عبد الفتاح أبو مدين، بينما وقف محمد مليباري في الضفة الأخرى. وكانت جازان حائرة بين مد بألف ومد بياء، وانتصرت رؤية الأنصاري ومؤيديه للألف وشجع على رسوخها انحياز أهل جازان مثقفين وعامة إلى الرأي الذي رأوه صوابا وهو مد الألف فبقيت على جازان. ويرى الروائي عمرو العامري، أن مساحة السؤال كبيرة جدا إذا ما أردنا التطرق إلى الفرق بين صراع المثقفين في العالم وفي العالم العربي وفي المملكة، ذلك أن الفروقات تكاد تتمايز من بلد إلى آخر ومن عالم غربي إلى عالم شرقي ومن ثقافة إلى أخرى بل ومن نظام سياسي إلى آخر. ويصف العامري صراع المثقفين في المملكة ب«الصراع الشللي» إن صحت التسمية، وهو يعني الانحياز للشللية أو العلاقة الشخصية وأحيانا يتجاوز ذلك نحو الاختلافات الفكرية. ولا يتبرم العامري من الاختلاف والجدل إلا أنه يتألم عندما يقع الضرب تحت الحزام أو الطعن في الظهر هو السائد، متجاوزا نقطة الاختلاف الأساسية نحو التخوين والقدح أو حتى الاستقواء بالسلطات، وعزا العامري ذلك إلى عدم تحرير مفهوم الثقافة والمثقف من جهة وإلى ضعف الأنظمة التي تجرم القذف والشتم والطائفية وضبابيتها، مؤملا أن توجد نصوص أو لوائح واضحة حتى لا يغدو الاصطفاف الطائفي أو المذهب أو الفكري أو المناطقي أو القبلي هو السائد بعيدا عن جوهر الاختلاف، مبديا رفضه للخلاف النفعي أو الشخصي داخل النسق الواحد لحيازة مكاسب شخصية أو نفعية تكاد تكون صغيرة مع الأسف منها قضية الدعوات الثقافية والحضور الأدبي والتمثيل الثقافي الذي لا يخضع لضوابط معروفة أو واضحة، ويظل كما قلنا في البداية مرتهنا للعلاقة الشخصية أو التوصيات، ولنا في دعوات معارض الكتب والتمثيل الثقافي وفعاليات الأندية الأدبية نماذج تكاد تتكرر كل يوم في ظل غياب وصمت وزارة الثقافة عن ذلك وإناطة الموضوع بفرد أو أفراد يحتكرون هذا الحق والمنح، بحيث ترى مثقفا لا يكاد يحط الرحال من القاهرة إلى الشارقة إلى بيروت إلى الدار البيضاء بينما لا يحظى أو تحظى مثقفة أخرى بدعوة نحو ناد أدبي. وأضاف: صراع المثقفين الحقيقين في الغالب صراع مواقف، وصراع مثقفينا شخصي ذاتي. فيما يذهب الناقد الإعلامي علي فائع، إلى أن صراعات المثقفين إما أن تكون منتجة تخلق لنا أعمالا خالدة كما كان يحدث في العهود السابقة، وإما أن تخلف لنا الضغينة والأحقاد والقطيعة، وعد فائع من أسباب الصراع «عدم قابلية الأشخاص للنقد أيا كان، والشعور الذاتي بالكمال، والتوحد الثقافي الذي يعاني منه بعض المثقفين، والصراع على اللا شيء في أحايين كثيرة، وقصور دور المؤسسات الثقافية في القيام بواجبها تجاه المثقفين». ويرى أن قصور دور المؤسسة أو تخليها عن دورها يخلق الصراع، وربما يحدث قطيعة فعلية بين المثقفين والجمهور، ما يفسح المجال (للمتردية والنطيحة) في إشعال الخلافات وزيادة التوتر كما وصف. وأضاف: هناك جانب آخر مهم في صراعات المثقفين يكمن في الحساسية المفرطة والزائدة عن الحد لدى عدد كبير من المثقفين لدينا الذين يقابلون الاختلاف بخلاف ومن هنا ينشأ الصراع، مشيرا إلى أن الحلول تبدأ من الإعلام الذي عادة ما يفتح أبوابه لمثل هذه الصراعات غير المفيدة وغير المنتجة لشيء ذي قيمة، مؤملا أن يبدأ الإعلام بترقية هذه الخلافات وعدم تضخيمها وفتح أبوابه لها باستثمارها في حلول ممكنة وأعمال ذات قيمة ونفع، داعيا المؤسسات الثقافية إلى القيام بدورها الواجب عليها في تفعيل دور الكفاءات الثقافية التي تعمل من أجل الثقافة ذاتها وليس من أجل أشياء أخرى خارج سياق العمل الثقافي.