في كل مناسبة تتكرر المشاهد نفس المشاهد وفي كل المناسبات الثقافية والأدبية والفكرية والمعارض العلمية وفعاليات النوادي الأدبية وباقي الفعاليات الاجتماعية المباركة. يأتوا بذات "الخفة والرشاقة الدينية"، بذات سمتهم الذي حفظناه وعرفناه وخبرناه، بذات التجهّم والعبوس، بذات اليقين "الغريب" بعلو مكانهم الذي يخوّل لهم "نثر" رؤيتهم، و"فرضها" بسلطان الجبر والإكراه على الآخرين، وهم ضامنون ألا محاسبة تطالهم، ولا مواجهة توقفهم، ففي أحسن الحالات سيكون هناك "رد رفيق"، أو "مطالبة بالحسنى"، وهم مكرمون بعد ذلك بعبارات "المحتسبين"!! ما كنا في حاجة لأن نردد مثل هذا السؤال لو أن الأمر أخذ بالحسم من أوله.. لا يرضينا أن يظن ظان أن أي فعالية تقام في الفضاء الرحب أو داخل أروقة النوادي الأدبية، مصدق عليها من الجهات المعنية، ومحروسة بقيم وأخلاقيات أفراد من هذا المجتمع، اقتطعوا من وقتهم الثمين ليؤموا أمسية شعرية أو مناظرة فكرية، بما ينطوي على صفوية التلقي، وروح الإبداع في مقام الإنصات، أن يكون ذلك تنبيها لهم بأن يدركوا أنهم جاءوا إلى المكان الخطأ، في الزمن الخطأ، بالفكر الخطأ.. ولن أزيده من هذه الإشارة، فهي عندي كثيرة في حقهم.. ولكني متوجس خيفة يدفعني حب الوطن والغيرة عليه كيف سمحوا لمثل "هؤلاء" بأن يعكروا علينا صفو الحياة، ويعتلوا هامتنا ليتقيؤا فيها ما يعتقدوه صوابًا، وليته مجرد اعتقاد فقط؛ إنه يقين صمدي غير قابل للنقاش، يحمله بهمة المرشد والمصحح للمجتمع، فينتهر هذا، ويطارد ذلك، ويعاقب ثالث.. وليس ثمة رادع له، ولا محاسب له على فعل، ليس من اختصاصه بأي حال من الأحوال.. لم يعد يرضينا أن يبقى مثل هؤلاء، يقترفون أخطاءهم، ويمضون إلى بيوتهم سالمين.. فمثل هذا الصنيع كفيل بأن يوقظ الفتنة بين الناس، ويجرئ بعضهم على بعض، وإلا فكيف يمكن أن ننظر إلى هذه الاعتراضات المتوالية في كل مدن المملكة التي تشهد حراكا اجتماعيا وزخما أدبيا وفكريا هو نتاج لتطور الوطن وتفاعله مع المحيط الخارجي من حوله. كل أمسياتنا وأنشطتنا صادقت عليها وزارة الثقافة والإعلام.. فعلى ماذا يعترضون في كل مرة.. أعلى الفكر أم على الشعر أم على حضور الناس أم على شخصية المشارك!!.. إن أقرب تفسير لما يجري أنهم يكرهون الحياة ينظرون إليها بمنظار أسود يرونها من وجهة نظرهم الضيقة.. وهنا تكمن صورة الفكر الذي ما زال في دأب لوأد كل صوت لا يناسب هوى في أنفسهم، وهو صوت بلغ في جرأته حدودًا بعيدًا، وشأوًا متطاولاً حتى على هيبة مؤسسات الدولة، يخفت حينًا ليعلو متى ما أمكنت له الفرصة، وفي كل حالاته بين الكمون والظهور لا يجد من يردعه أو يوقفه عند حد الالتزام الموجب لطاعة ولي الأمر، المستقاة من أصل الإسلام وجوهره هذا الأصل الذي قامت عليه هذه الدولة ورعته حق رعايته وأولته كل تقدير واهتمام، ومع كل هذا يأتي من يرى في نفسه القدرة على الافتئات على الدولة ومحاولة تصحيح مفاهيمها. لابد أن تلتف الدولة، والجهات المعنية لهذه الطائفة في المجتمع، فأسوأ ما يمكن أن تقابل به هي الغفلة والإعراض، ففي هذه الغلفة تنمو بذرتها وتورق شجرة زقومها، فما فاقم من خطر الغلو والتطرف والانحراف الفكري في مجتمعنا إلا غفلتنا وتهوين الأمور وهي في بداياتها، حيث كانت السيطرة ممكنة، وتقويم المعوج سهلاً ويسيرًا.. ولكننا اليوم أصبحنا نواجه تيارًا يظن أنه يملك أسباب الترهيب والتخويف بسلطان الدين وتفسيره على هواه، مستندًا إلى مجتمع مبسط الراحة للدين، تواق لالتزام النواهي واجتناب الآثام ما وسعه النهي والاجتناب، تواق لمرضاة الرب ورضاه، فما أيسر الخديعة باسم الدين حين يكون السمت سمت وعظ وإرشاد، والصوت صوت نعيق وافتراق.. لابد من محاسبة هؤلاء الغوغائيين المتفلتين الذين يظنون أنهم فوق المجتمع، وأعلم من أبنائه، وأتقى من عبّاده، وأشرف من أدبائه، وأرفع منزلة من قادته ووزرائه.. لتكن اليقظة من هذه الغفلة سريعة وحاسمة، ولننظر إلى الأمر بعين الاستشراف والقراءة المستقبلية، فإنما هي جمرات تحت رماد اليوم، إن لم تقطع اليد التي تنفض عنها هذا الرماد، لتوشك أن تصبح ضرامًا لحريق مهول، وفتنة تطال المجتمع، دون تمييز.. ومن يعتقد غير ذلك، فلينظر إلى منشأ ومبتدأ فتنة الإرهاب، ونموها، وانتشارها، حتى أصبحت لها اليوم ما يسمونها دولة، وليقارن بين "أدبيات" تلك الدولة المدعاة، وبين ما يطرحه أولئك المتفلتون من عقال الحسبة الإسلامية المنضبطة أن يجد فرقًا بينها في الخطاب، أو مخالفة بينها في الاعتقاد.. لهذا فلن أملّ من رفع صوتي عاليًا: لابد من محاسبة المتغولين على ديننا، والمستعلين علينا بساقط الرؤى، وآسن الأفكار، ومتجيفات المعاني الآسنات. ولا تزال كلمة الأمير محمد بن نايف منذ جريمة القديح ترن في ردهات المجتمع «لا يمكن لأحد أن يأخذ دور الدولة».