الحوار مع شخصية بحجم جارالله الحميد مقلق لأمثالي، ذلك أن المثقف بطبعه شديد الحساسية وربما يأتي سؤال مستفز فتخسر الحوار وتخسر علاقة حسن الجوار، وربما لا ترقى الأسئلة إلى مستوى ذائقة الضيف فحينها سينظر إليك من علٍ مرددا «مين اللي ورّطك في الصحافة الثقافية؟» أكثر من هاجس ساورني وأنا أطرح فكرة الحوار على (عراب السرد) جارالله الحميد، إلا أن مخاوفي ذابت تدريجيا كونه رحب بأن يكون ضيفنا، ثم تكرم بالرد خلال أسبوعين، ولم يتردد في الإجابة على ما طرحناه بأريحية وها نحن نضع بين أيديكم ما سخيه (حفيد حاتم) و(هبوب الشمال) كما قال الراحل الأبيض محمد النفيعي ذات شعر (مامثل جار الله مثل، إلا هبوبك يالشمال، والراسيات من الجبال، والشيح وغصون الإثل). أين يقف جارالله الحميد من مقولة (ماركيز) نعيشها لنرويها؟ أحس أن الجملة منقوصة وأظنه قال - إننا نحيا طول هذه السنين ليصبح لدينا (حكايات) و(لنرويها!) وهاتان إشارتان عميقتان بأنه على مر دقائق اليوم يؤلف روايات لنفسه يتسلى بها وسيجيء يوم يقرأها الآخرون مغتبطين. ماركيز بهذه العبارة يعلن عدم خجله من كونه -مؤلف روايات- باعتبار أن هذا هو عمله (الرئيسي) ! هل تسبب صدور أعمالك الكاملة في زهدك عن مواصلة النشر لأعمالك القصصية؟ كلا لم يحدث ذلك، مع أنني أعترف أنني بعد وصول نسخها للنادي الأدبي الثقافي بحائل شعرت بقشعريرة مزدحمة وأحسست وأنا أغادر وثمة زملاء لم يغادروا أنهم كانوا ينظرون إليَّ ويتهامسون – خلاص. عد طبلونه! وزين اللي 4 مجاميع قصصية. وفي البيت داهمتني شيخوخة ممتلئة بالضحك على الذات والآخرين. واتخذت بعدها بشهور غرفة المجلس لي منعزلا ومعتكفا إلى حين. صار الآخرون يجيئون إليَّ. طبعا ليس كل الأسماء التي تتردد إعلاميا باعتبارها أصواتا من (حائل) وليس بسببهم هم لا يتنازلون أن يزوروني. وقد يكون أصابهم ال PANIC ATTAKE وهو ما يترجمه عباقرة الطب النفسي العرب ب (الذُّهان) على وزن فعال وهو يعني الاضطرابات التي تحفر المخ والجهاز العصبي المركزي وتجعل المصابين بالذهان أصغر من اللازم وأفضل وضعا ممن يصيبهم هذا الاضطراب الملعون لأنه مرتبط بالمزاجيين بعدما يبلغون ال 40 عاما كلما جلسوا ساورتهم هلاوس سمعية وبصرية تجعلهم يتخيلون أن ثمة عدوّا – مجهولا – يهم بالقفز عليهم ببيوتهم أو أنهم يسمعون لصوصا يتحدثون عن طريقة مفصلة لسرقة منزله وسجنه وربما خاف على أولاده. ما مدى تأثير كتابة المقالة على كتابة فنّك الأول القصة؟ أنا أكتب المقالة دونما أدنى إحساس بأنني قاص. الكتابة مهنتي ولا أقصد مصدر رزقي ولكنها (عملي الأساسي). ولذا فإن كثيرا جدا من مقالاتي (منع) من قبل رؤساء التحرير الذين يفكرون بطريقة مختلفة تفتقد البراءة وتميل نحو التأويل الذي يلوي أعناق الكتابات !. لذلك عندما يجيء موعد نشر مقالي الأسبوعي ولا أجده أشعر بمنتهى (الذل) والإحباط وربما أتخذ قرارا بالتوقف عن الكتابة ولكنني من هذه الزاوية أرى أن هنالك كتابا ممتازين محليا ولكنهم (يضطرون) للغياب بسبب أنهم لو كانوا واثقين من توجهات وزارة الثقافة إلا أنهم يعرفون أنهم سيقابلون قراءَ ما تحت السطور – وهؤلاء فئة تعتبر أشد رداءة وسوءا ومعبئين بالحسد على الكتاب الناجحين - وأولئك لا سلطة شرعية ولا قانونية يمتلكونها ولكنهم نمامون يحكون في مجالسهم المتكررة حد التفاهة كل ما يتخيلون أنه سيحدث بناء على خبراتهم الضريرة بعقوبات الكتاب الجريئين. و يروون قصصا من افتعالهم حول ترى العين عليك يا فلان!. ورى * ما تجوز عن هالكتابة اللي صارت مشكلة عليك وعلينا ! ؟ ويمثلون أمام رئيس التحرير الذي يضطر – أحيانا – بسبب رغبته في وساطة تخلص جريدته من ضياع مالي ومن تكوين هيكلي للمحررين يشبه مسرح اللامعقول. بماذا تعلق على من يقول: جارالله الحميد أعمق من وظف اللغة في الفن؟ أقول تمهل هداك الله. فجارالله كاتب لازال يعتبر نفسه راغبا في الاستفادة من كل تكنيك وكل توظيف يستاهل نسبته إلى اللغة العربية وهي أجمل لغة نهائيا وكل تحرك في سيناريوهات القصاصين الذين لا زلت أقرأ لهم اليوم نفس ما كتبوا قبل سنين مع تغيّر طفيف في مستوى اللغة. أنا - يقهرني - أنهم على طول ما هم مكبّون على وسائل الإعلام من العمود الصحفي إلى فضاء الإنترنت اللامحدود والذي سيستمر لا محدودا فالعلم الذي يقدم التكنولوجيا لشعوب العالم ليس مثل ما تصوره أفلام الإمبرياليين عن علماء استخباراتتين ينجحون في محو (ذاكرة) الإنسان. عدوّ الفنان الرئيسي هم صناع أفلام ما اسميه بالسينما في خدمة الإرهاب والبطش. تظل ذاكرة الإنسان هي مكان أسراره ومخبأ رؤاه وفضاء أحلامه (الكبرى) ! وأنا أشكر حسن ظن قرائي بي وهو يدل على عمق علاقتي بالقارئ واهتمامي بأن يكون مجادلا ومحاورا لا – ببغاء – أو نسخة كربونية من بعضهم البعض وهم حينما تتفرس في الوجه الثقافي المحلي صاروا مجموعة من الشباب الذين لم يصدقوا أنهم حصلوا على جزرة وعصا من لدن وظائفهم الحكومية ولكنني أقول لهم – لم يعد الكاتب أسيرا لمخاوف ميتافيزيقية ! هو كائن يتعايش مع إنسانيته بحب وسلام ورغبة في وقف (القتل) الذي هو الماركة المسجلة لتطورات القرن 21 الذي تقوده الإمبريالية الكبرى وأذنابها ضد كل البشر بسبب أن الإنسان لا يشبه النعجة ولا الحمامة بل هو كائن في مخه مليارات من اللفائف التي تسجل عليها ذاكراته وخبراته ومبادئه وطموحاته ومرضه وعجزه وقلة حيلته وحينا صوته حين يجيء هادرا متحديا كاتمات الصوت باعتبار أن المثقف – عموما – والكاتب بشكل خاص هو ضمير أهله. ووجدان وطنه وحارس مشروعه التقدمي المبلط من العظام والجراح وعلى قول عبدالرحمن منيف (ذكرى خيبات كثيرة مضت ! وخيبات أكثر ستأتي) ! كيف يمكن للقصة القصيرة أن تستوعب الوجع الطويل؟ هي مثل مقطع موسيقي قصير لكنه مؤثر ويهزّ العروق بدمها الطهور. مثل أن تصمت أمام السيدة (نجاة الصغيرة) وهي تسلطن في أغنية نزار (وكم تمنيت لو .... للرقص .. تطلبني وحيّرتني ذراعي أين ألقيها !!!). متى سنقرأ الرواية الأولى لجارالله الحميد؟ سيظل هم كتابة الرواية هما يزدحم بي. ولكن متى ؟ THAT IS THE QESTION ! إن الرواية بحاجة إلى مجتمع مفتوح ومتناغم ومندغم في بعضه البعض حدّ سقوط بعض الأشياء التي (يستحسنها) الدين مخلوطا – بالطبع – بالعادات والتقاليد بشكل لا مفرّ منه. كما أنني (لا أميل) إلى تصنيف كل ما قرأت من روايات محلية في خانة الرواية عدا (بنات الرياض) لرجاء الصانع والتي يدور حولها (جدَل) كبير. لك موقف من القصة القصيرة جدا، ما سبب حديّة الموقف المناهض؟ ما هو موقفي المناهض ؟ أنرني أنار الله طريقك دنيا وآخرة !؟ أعتبر نفسي من آباء النص القصصي القصير جدا بدليل صدور مجموعة كاملة لي (رائحة المدن) كلها عبارة عن نصوص قصيرة بعضها لا يزيد عن خمسة سطور وأطولها في صفحتين وهي القصة القصيرة (منّة) لأنها تداعيات أهم ما فيها عبارة ستظل في خاطري طويلا (قاتلهم الله لقد حرموني رغبتي الأخيرة!). أنا مع النص القصير غير المزدحم باللغة وتهويماتها وتداخلات اللغة غير المرئية. النص القصير = حدث + متعة في سرده + مكان. بدون هذه الشروط يصير أي نص قصير قصة قصيرة جدا !، وهذا مستحيل. من هم آباء السرد في المملكة وما أثر من سبقكم في القص محليا وعربيا عليك وعلى جيلك؟ آباء حركة السرد كثيرون، ولكنهم - مُهملَون - عندك الرائد الكبير الذي رحل قبل عام تقريبا (إبراهيم الناصر) وغيره ثمة عظيم آخر من (الحجاز) هو (حامد دمنهوري) رحمه الله، وأحمد السباعي وخالد خليفة ولقمان يونس وكثيرون. ما قدمنا لهم ؟!. لاشيء مطلقا ! حتى في الأعياد الثقافية ننسى هذه الأسماء. وبالذات (إبراهيم الناصر الحميدان) ! إنه كاتب عربي من طراز كبير وضخم ومذهل. ويكفيه روايته المبكرة (ثقب في رداء الليل) وهي تدور في الوسط العمالي وخاصة البحري والمدارس وبداية التعليم النظامي وما رافقه من مشكلات. إنها رواية جديرة بأن: تقرأوها من جديد. هل مرت القصة القصيرة بمراحل حتى بلغت النضج؟ مؤكد هذا ! كانت القصة وصلت مرحلة الاستعراض اللغوي لدرجة أن كاتبا لن أسميه وهو رمز ولكنه كتب مرة قصة اسمها (قطيع الكلاب والبقر واللاشيء) وكما تلاحظون فهي تسول (لعدمية) و(عبثية) – صموئيل بيكيت – صاحب (في انتظار الذي يجيء ولايجيء) وهي جملة تشبه في انتظار الذي لن يجيء وأظنها حازت جائزة نوبل أو حازها (بيكيت) عن مجمل أعماله فيما بعد أتى جيل (جبير المليحان) الذي أشعل القصة المحلية بمفردات صغيرة ولكنها هامة كالأرنب والنملة واللون وسار معه في طريقه هذا المفكر الكبير الدكتور (خالد الدخيّل) الذي خسرته الكتابة اسما أغلى من ثمنه!. ثم جاء ما نستطيع القول بأنه جيل (ليلى الأحيدب) وضم كلا من يوسف المحيميد وفهد العتيق وآخرين وإن ظل هؤلاء (رموزا) مميّزة لهذا الجيل ومازال الجيل يمضي ويتناسل. إلى أي مستوى تسبب قتل الأحلام في قتل الإبداع؟ بلا شك أن قتل الأحلام في الفني هو قتلها في المُعاش!. شعور بفقدان الوجهة والخذلان إلى ما يشاء الله. ما أثر مواقع التواصل الاجتماعي عليك من حيث القرب من أجيال وتفاعلهم مع ما تكتب؟ مواقع التواصل الاجتماعي ميزتها أنك تقول للعالم (إنني موجود) وسواء غبتَ لأسباب تتعلق بالنص أو بك شخصيا. أين الجوائز عنك وأنت من الرواد؟ الله يهديك مرة ومرة وألف مرة. أنا لست من الرواد. الصدفة وحدها جعلتني أمارس النشر قبلهم. والجوائز تستحق (منجزا) عظيما. صحيح أنني أنظر إلى مجموعة (رائحة المدن) نظرة خاصة وأحسبها تستحق جائزة أفضل عمل يكتب بالقصة القصيرة جدا. لكنكم - تقدرون ! فتضحك الأقدار. لماذا يقل حضورك في المؤسسة الثقافية (الأندية الأدبية) و(جمعية الثقافة والفنون)؟ بسبب (البروتوكولات) فبعض بل كل الجمعيات تبحث عن اسم مرضٍ عنه وأحسب أن اسمي لا ينال من الرضا الكثير. بسبب البروتوكولات المذكورة أو غير المذكورة.