يظل الاحتفاء بالشعر وتكريم الشعراء إحياء لما نتوهم أنه يموت من مشاعر وجدانية نختزلها منذ طفولتنا، ولذا تجدنا مع كل لحظة شاعرة نستعيد إنسانيتنا ونستعيد حياتنا الطبيعية من حالة الطوارئ المزمنة في عالمنا العربي، وفي الطائف حضر البارحة الشعر والذاكرة وتجددت أحلامنا المفتوحة ونحن نعيش لحظة تكريم شاعر قادم من واحة النخل وينابيع الماء إلى حضن جبال الهدا التي شهدت مولد شاعر لا يشبه إلا نصه، فجائزة باسم محمد الثبيتي تحمل من معاني الوفاء والانتماء ما لا يحصى من المعاني والأسماء وتجربة الشاعر الثبيتي تمثل الشفافية التامة بين المبدع والحياة بكل تفاصيلها، ومنح الجائزة لشاعر بحجم أحمد الملا بعد أن تم منحها لرمز في عام مضى يؤكد أن أمانة الجائزة تعي جيدا أهداف وغايات الجائزة النبيلة والمعنية بالفنية فعلي الدميني استحق بجدارة أن يكون أول الفائزين وهو الشاعر الذي وظف كل فنيات الحداثة وتقنيات النص الجديد في موروثه اللغوي وزاوج ببراعة بين أصالته والمعاصرة مع احتفاظه بالموسيقى نصا وروحا، فيما ينطلق الملا إلى مواكبة عصرية منفتحة على التجريب متجاوزا ذاته ومعبرا عن جيل جديد هو جيل الكتابة السينمائية ما دفع النقاد والشعراء إلى الثناء على أمانة الجائزة في الاعتراف بالمراحل وتعزيز التواصل بين التجارب بكافة أطيافها، ويؤكد الناقد عبدالله السفر أنه في غاية الفرح، إذ يحرز أحمد الملا جائزة محمد الثبيتي للإبداع في دورتها الثانية التي يرعاها نادي الطائف الأدبي، وأضاف: أحسب أن ما بذله من جهد ومن سهر على أدواته الفنية، بحثا وتطويرا خلال ما يقرب من ثلاثة عقود منذ أول نص كتبه، في العام 1987 بعنوان (انعتاق أول)، يحمل تغيرا كبيرا في كتابته وانعطافا يحدق إلى التجربة من داخلها متخليا عن زي خارجي ربما لو استمر فيه نصه لتعثر كثيرا ولم يواصل مسيرته التي وضع حجرها في إصداره الأول «ظل يتقصف» في العام 1995، مشيرا إلى أن إصداره الثاني «خفيف ومائل كنسيان» في العام 1997 توضحت فيه الشخصية الفنية كشاعر له مساحة جمالية يتميز بها في تشييد نصه، حيث لا ينبعث - هذا النص - من نشاط لغوي ولا من تداعيات هذيانية بل ثمة تجربة حياتية هي خزانه يستمد منه لحم النص ويقبس الشرارات المندلعة من عظامه المغموسة في تلك التجربة، ويرى السفر أنه عبر عين تربت في حضن السينما والمسرح وطافت طوافا غير قليل ولا هين في الساحة التشكيلية بما يمثل تجربة بصرية تقوم عند شاعرنا مرجعية أصيلة في بناء النص وإرساء جمالياته عليها، وبطابع المغامرة وتلقائية البحث في الوقت نفسه، شرعت تجربة الكتابة في الترسخ، وأخذت تعكس مزاجا متفردا يسمها ويصنع خبرة خاصة نأت عن التشابه الذي يصل كتابته بآخرين على سبيل الاستنساخ وإن لم يكن هذا يعني أنه بلا جذور، ولفت السفر إلى أن الشاعر الملا له جذور تصله بهواء من الآباء متعدد مع استقلالية لزراعة نخلته وتكوين حقله، إضافة إلى أن هذه الخبرة جعلته ينتبه إلى المطارح التي ينبغي على نصه أن يرحل إليها وأن يرودها مستثمرا ما يمر به من مواقف ومن حالات شأن رحلته الطويلة إلى هيوستن الأمريكية وما تهيأ له من مناخ أنتج فيه غالبية كتابه «تمارين الوحش» الذي لم يجعله حدا رغم الانتقالة التي أنجزت بهذا الكتاب بالتقاط بذرة النص العابرة وتخليقها ثانية في مختبره ومن داخل تجربته لتصبح فمه ووجهه، ويذهب السفر إلى أن الملا لم يتوقف عند حد معين ورفع رداء القناعة والاجترار ومع الفيسبوك انفتح أمامه أفق شاسع أمام التنور وفي حضور الجمهور مباشرة ينكتب النص مشاركا حالة عامة في هذا الوسيط الكتابي الجديد الذي انتهت معه مقولة انتظار الإلهام وعدم الذهاب إلى النص وتركه يأتي على مهل وبأية طريقة تحلو له، موضحا أن الشاعر دخل هذه التجربة الجديدة وأنجز تجربة حارة عامرة باليومي والسياسي وبحكايات الذاكرة وبالتنافذ مع التجارب الفنية الأمر الذي ارتقت معه التجربة وتوسع حوضها بأكثر من مخطوطة خرج منها مؤخرا «علامة فارقة» عن دار مسعى، مبينا أن الإصدار تجسدت فيه التحولات الأخيرة في نص الملا بخلفية اتصاله بالفيسبوك، وما يمنحه هذا الوسيط من غنى للكتابة لا يخلو من التحدي ومن رهان صعب يخشى عليه من التكرار، وهذا ما انتبه له جيدا أحمد الملا حيث لم تضح عنده الكتابة اليومية حالة إدمانية أو الكتابة من أجل الحضور فقط وإنتاج حالة رتيبة تقابل بلايكات منهمرة هي أيضا نتاج رتابة انفكت عن القراءة ووضعت ثقتها في ضغطة إصبع سريعة كما لو كانت هذه الضغطة تمسح أثر الكتابة، وألمح إلى أن الملا ذكي في تفادي مثل هذه الوضعية إذ نلفيه ينقطع عن الكتابة حتى لنظن أنه هجر النص لانشغالاته في التسيير الثقافي بجمعية الثقافة والفنون بالدمام، لكنه سرعان ما يقطع هذا الظن بتوقيع حضور خاطف مع نص لم تصنعه العجلة ولا رغبة التوقيع المجاني، واختتم بالتهنئة لأحمد الملا قائلا ألف مبروك للقصيدة الجديدة وألف مبروك لنا، ويؤكد الشاعر أحمد القيسي أن الشاعر أحمد الملا من الشعراء الرائعين فعلا عرفته خلال جائزة السنوسي الشعرية في نسختها الماضية وكنا معا في جلستين على مدار يومين متتابعين الأولى في ضيافة الدكتور حمود أبوطالب والثانية عند الشاعر علي الأمير، لافتا إلى أنه تعرف على تجربته الشعرية بشكل جيد وأضاف: أرى أن تجربته تستحق الفوز بكل جدارة واستحقاق بما تمثله من حداثة مواكبة كما في (ظل يتقصف) إذ يبرز صوت متميز ومدهش له خصائص النص الحديث وعناية بالصورة واللغة البصرية ما يعني أنه يعبر عن مدينته الشعرية ويصوغ مفردته المتماهية مع واقع حيوي بالطاقات الخلاقة والمذاهب الفنية والتيارات التجديدية ويذهب إلى أن ديوان الشاعر جاسم الصحيح (كي لا يميل الكوكب) نال الجائزة بأغلبية التصويت خلال اجتماع لجنة أمانة الجائزة وذلك تأكيد على أن الأمانة برئاسة الدكتور سعيد السريحي منحازة للجمال والتجديد ومواكبة العصر وتقنياته وأضاف: ولعل هذه اللجنة هي من تختار المواضيع أو عناوين الدراسات النقدية التي من خلالها سيتم منح الجائزة التي خصصت مسمى الأسطورة في شعر الثبيتي والتي فاز بها الدكتور إبراهيم سند إبراهيم من خلال دراسته (تجليات الأسطورة في الشعر العربي المعاصر دراسة في شعر محمد الثبيتي) ما يسهم كثيرا في التحرر من العناوين الكلاسيكية للأبحاث النقدية والأعمال الأدبية والإتيان برؤى جديدة تواكب تطلعات الشباب لهذه المرحلة وتطلع إلى منح الأعمال الفنية بعض المساحة خصوصا تلك اللوحات التي تتماهى مع شعر الثبيتي من زوايا مختلفة خصوصا تلك المليئة بالصور التي يستطيع أن يجسدها التشكيليون في لوحاتهم وتكون إلهاما لهم في تطوير قدراتهم الفنية كما يمكن تخصيص جائزة للتصوير الفوتوغرافي.