1 (ربما لن يكون الموت غير هذا تلف الجسد بلطف، وصورة وجهك في المرآة تُرى من الجانب الأشد تعتيما). كلمات غريق يبصر الأعماق تدنو منه ويدرك في نهاية أنه يتخلص من صداقة قديمة. ليست صداقة البحر وإنما هي صداقة الجسد. كلماته ترثي بمرارة وتكرار موت الإنسان. وتنشد باستمرار استعادة الفقدان والغياب الذي لا يستحقه الانسان. يرثي الشاعر موت ابنه قائلا: مرة أخرى تغوص في الحزن كما ثعبان يزحف على التراب. في المكان نفسه وفي الرماد عينه، وفي مياه البحيرة الراكدة نفسها، في رمادها الفضي النديّ ومنذ دموع الأمس كم مضى عليها من الوقت». من هو صاحب هذا المقطع الشعري المؤسي؟ إنه الشاعر الاسباني الكبير خوسيه فالنتي المزداد في أورينس 25 أبريل 1929، أمضى خوسيه انخيل فالنتي طفولته في غاليسيا قبل أن يرحل إلى مدريد، حيث أكمل دراسته في علم اللغة الرومانية. كما أصبح عضوا في قسم الدراسات الإسبانية في جامعة أكسفورد، وفي عام 1958 انتقل إلى جنيف حيث استقر وعمل مسؤولا في الاممالمتحدة حتى عام 1975. وبعد ذلك وزع وقته بين جنيف وباريس وبيته في الميريا. توفي في يوليو 2000. ينتمي الشاعر خوسيه فلانتي لجيل شعراء ما بعد الحرب الاهلية المتأخرين بحكم أنه بدأ النشر بداية الخمسينيات ومع بداية صعود المجددين من الشعراء الذين أصبحوا اليوم علامات فارقة في مسيرة القصيدة الاسبانية المعاصرة. برز خوسيه فلانتي داخل هذا المشهد بقصيدة تزاوج بين الفلسفة والتاريخ والشعر والنثر. قصيدة يقظة ومنفتحة على الموسيقى والتشكيل وبهذا أصبحت كتابة فلانتي واحدة من أعظم التجارب الشعرية الاسبانية المعاصرة عمقا وتفردا. وقد قال عنه الشاعر غاسبار هونس: «خوسيه أنخيل فالنتي، واحدة من كبار الشعراء من هذا القرن، صوفي الجوهر، وريث التقاليد الإسبانية، يقودنا في دروب يتعذر تفسيرها، ويدنو بنا من الفراغ، واللا شيء (...) مفسحا غرفه المتسترة على إشراق لا متناه». 2 في قصائد خوسيه فالنتي جانب مروع من الحزن و الغموض والطلاسم الناتجة عن أبحاثه الباطنية، عن الأسرار الخيميائية التي صبغت كتاباته بلغة مستغلقة. وبالتالي يصعب الوصول إلى تفكيك شيفراته اللغوية، فعندما يتحدث الشاعر عن المرأة والنجوم والحياة والموت، فإنه يدور حول المعنى الحقيقي ولا يصرح به. شعره يسمو جماليا بتيمتي التأمل والتألم. (يختفي الانسان تاركا بقايا وجوده البشري. ذكريات من الأحداث البعيدة جدا. آثار. يتلاشى الأثر تدريجيا. ويذوب .كما الحلزون عندما يترك وراءه بقايا من الوحل). كان خوسيه قريبا جدا من الشاعر الفرنسي من أصل روماني بول سيلان ومعجبا بالشاعر الفرنسي سان جان دولاكروا وقصائده المعتمة حيث يختفي كل شيء ونكون شاهدين على الانمحاء المطلق. هذا الاندماج الباطني مع المحو، ليس مبتغاه إحياء قيمة متعالية، ولكن النسيان الخالص، والمحو الأبدي عن أية استعادة .كما هو الحال مع سيلان، فبعد سقوط النهائي لا يمكث غير صوت، متقطع وعنيد يحاول قول اللامرئي. ويبدو أن هذا الصوت يسعى جاهدا إلى سحب الفراغ الجارح بواسطة الكلمات. (لا تقاس القصيدة بطولها، ولكن بقدرتها على التوليد، خارج القياسات، والزمن حوار مع الجسد في الجسد، في المادة حوار كلي بين الجسد والروح الكتابة من الانتظار، وليس من الكلمات، بل من الاصغاء إلى ما تقوله الكلمات). 3 كان خوسيه ذلك الجسد المصغي لتلاشي الانسان وهسيسه الخريفي المتأمل لجريان كلماته وصوره. كان يأمل أن يبحر بعيدا في الأمل، لكنه كان على يقين أن العالم آيل للتلاشي وأن كلماته لن تكون سوى ذكرى لشعر قديم. ربما لهذا السبب نحس أن قصائد خوسيه ليست غير صدى شرود ورحلة طويلة من الألم. (أعبر صحراء، وخرابها السري المجهول) كانت تجربة موت ابنه أنطونيو عام 1990 تجربة موغلة في الحزن، لم يتمكن أبدا من التعافي منها. (من جسدك الغريق، يأتي صوتك، كما في الماضي، مفعما برذاذ الموت). لا يتحدث فلانتي عن الألم الذاتي ولكنه ينشد الالام جميعها التي تخترق العدم. لست هنا، ولست هنا. ياله من جسد طاحن هذا العدم يبدو أن الشاعر يضع جدولة للتلاشي القادم. يسيطر هذا الشعور على الشاعر ونجده في أعماله التي وضع لها عنوان دال « النقطة صفر» التي جمعت دواوينه ما بين 1953 و 1979 ثم تلاها الجزء الثاني « الذاكرة المادية» الذي ضم قصائد كتبها الشاعر ما بين 1979 و1992 والذي يعتبر تحفة شعرية حاول من خلالها الشاعر الهبوط إلى ذاكرة المادة وبالتالي صوب ذاكرة العالم. مكنته ومضات الذكريات، المتواضعة والبسيطة من تفادي التيه داخل الليل الموحش محافظا بذلك عن الرغبة في الموت دون السعي إليه. لهذا نجد قصائده شظايا من لهب الحياة ومن كل ما يمكن أين يجعل الحي ميتا. 4 في كتابه «شظايا لكتاب المستقبل» يعد خوسيه بلقاء في نهاية المطاف يجعلنا نعتقد أننا ما كتبه لم يكن مسموحا لنا باقتحامه لأنه ببساطة لا نستحقه ومرة أخرى على الرغم من «سوء الرؤية في الوقت الحاضر، وسقوط التقويم، ونهاية الزمن، وجمود الاحساس والاقتتال على الرداءة». يمكن اعتبار هذا العمل المتيقظ والباهر تقرير بحار عن تيهه الأخير ما بين اليأس والأمل. كان أمامه، الآن، الممكن المفتوح على المحتمل المستحيل ولكي لا يموت بالموت، لم يكن أمامه إلى اليقظة. *** كحيوان ضخم لامرئي ينحدر الهواء غامرا السماوات ونحن نتأمله بإعجاب في أكواخ الخوف المبللة يغشى الليل بؤسنا يفتح الهواء الصباح على مصراعيه كاشفا النور والفرسان القادمين ومرأى المياه المنحدرة. *** أيتها الطبيعة المبتلعة، دخلت إليك ومشيت ببطء. مشيت حافيا ولم أجدك. كنت هناك، ومع ذلك لم تريني. لم تكن هناك مؤشرات عن وجودنا المشترك. التقاؤنا هكذا، وحدنا، دون أن نرى بعضنا. طيور صفراء. شفافية القرب المطلقة. الأقمارالبطيئة تقتفي اقمارا كما الضوء يمنح الضوء، وللنهارات نهار، والجفن يتشبث بالحلم نفسه. العيش أمر سهل. لكن من الصعب الاستمرار في الحياة بعدما عشناه. نحتاج القليل للعيش. والقليل من الوقت لنعلم أننا كنا الشخص نفسه، بينما طائر الهواء الغامض يحضن رمادك، بالكاد أصبح الحافة الرفيعة لظل خفي. *** صورتك الحزينة على زجاج النافذة الرهيفة غسلتها الامطار هي صورة طفل يميل دائما إلى دخول أعماقه متلمسا الصورة المكسورة لما أراد أن يكون. ربما في العطش، والعتمة، وسرعة تفتق النهار تغيرت تدريجيا إلى شيء آخر متاخم لك، لست أنت. ولن تعثر على نفسك إذا عدت متلمسا الجسد الذي كان، حيث أحرق جسدك حتى الحلم الأبيض ومعدن الحب. *** ضع وجهك الذي لم تعد تتعرف عليه دع كلماتك تهرب، حررها منك واقض وقتا طويلا بدون ذاكرة وبصيرة، تحت القوس الذهبي الممتد هناك في الخريف الشاسع كمرثية للظلال.