حطت بي الطائرة في مطار الخرطوم لأنتقل منه بالسيارة إلى ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة. أمضيت هناك ثلاثة أيام شاركت فيها في المؤتمر العالمي لطب الأسرة والمجتمع الذي عقدته جامعة الجزيرة. ذكرياتي مع جامعة الجزيرة لا تنتهي. زرتها عدة مرات. في مطلع الثمانينات الميلادية بدأنا الدكتور بشير الحمد من كلية الطب بجامعة الجزيرة، والدكتور زهير نعمان رحمه الله من كلية الطب بجامعة قناة السويس، وأنا من كلية الطب بأبها (قبل أن تصبح جزءا من جامعة الملك خالد)، في محاولة تثبيت مفهوم التعليم الطبي الإبداعي، الذي يعتمد على الخروج بالطلاب إلى المجتمع للتعرف على أسباب المشكلات الصحية وجذورها البيئية، والتعلم الذاتي النشط الذي يتيح الفرصة للطالب لأن يبحث عن المعلومة الطبية في مظانها ثم يأتي إلى الفصل الدراسي للنقاش والحوار بدلا من الاكتفاء بسماع المحاضرات والتركيز على حفظ ما يتلقاه من أستاذه. وبعدها بسنوات قلائل أنشئت كلية الطب بجامعة الخليج العربي فانتهجت نفس المسار. يومها كانت الفكرة جديدة في عالمنا العربي وإن سبقتنا إليها كليات طب أخرى محدودة من أنحاء العالم منها ماسترخت في هولاندا وماكماستر في كندا، وويسترن ريزيرف في أمريكا، وبينانج في ماليزيا. لم تكن فكرة إدخال تغيير في نمط التعليم الطبي التقليدي أمرا سهلا. أذكر أن أحد أعضاء مجلس الجامعة انصب اعتراضه على أن التغيير في نمط التعليم قد يجعل من الصعوبة بمكان انتقال طالب الطب من كلية إلى أخرى، وفاته أن التطوير سنة الحياة. وفي أحد المؤتمرات بعد أن تحدثت وتحدث أخي د. بشير الحمد عن هذا الاتجاه الحديث في التعليم الطبي علق علينا أحد عمداء كليات الطب في دولة عربية بأن هذه فلسفة طارئة على مجتمعاتنا ونظمنا التعليمية. ومع الزمن حدث التغيير تدريجيا. فأصبح اليوم هذا النمط الإبداعي في التعليم الطبي هو النمط السائد في كليات الطب في العالم، وأخذت به كليات الطب في دول الخليج العربي. من ضمن فعاليات المؤتمر التقيت بحاكم الولاية (السودان مقسم إلى 18 ولاية) ووزير الصحة في الولاية (المسؤول عن الرعاية الصحية فيها) ومسؤولي الجامعة. لمست عن قرب اعتزاز الجميع بأخوة المملكة وصداقتها ودورها الريادي في العالم العربي. كما لمست من خلال ما اتخذ من قرارات ميزة أن يكون للمسؤول عن الصحة في الولاية (أو ما يسمى عندنا المنطقة) صلاحية الحركة والتصرف بدون الرجوع إلى الوزارة في العاصمة إلا في ما يتصل بالخطة العامة. وهذا ما أتمناه لبلادي. الإخوة السوادنيون يتمتعون بحسن الضيافة، ورحابة الاستقبال، ولطف المعشر. أما السودان بمساحته الشاسعة وعدد سكانه الذي يقارب الأربعين مليونا فقمين بأن يصبح سلة غذاء البلاد العربية من قمح وذرة وخضروات وفاكهة إذا ما استغلت إمكاناته الطبيعية. كيف لا وأرضه خصبة ومياهه جارية. يسري فيه النيل الأزرق يأتيه من هضبة أثيوبيا، والنيل الأبيض ينبع من بحيرة فيكتوريا ليلتقيا قرب الخرطوم مكونين نهر النيل العظيم أطول أنهار الدنيا. والذي تواترت الأنباء أن من يشرب من مياهه مرة لابد راجع ليشرب منها مرات ومرات..