لا أعلم من قال هذه العبارة .. «الرجال معادن كل نوع منها ينصهر عند درجة معينة من الحرارة»، ولكنني أشم في عبارته الخبث الشديد لاسيما بعد أن أخذت مكانها من التفسيرات الواقعية التي تدل على المقصود منها، وقد آمن بها بعض الناس فأخذوا يبذلون الجهد لاختراق أي موظف يريدون تمرير معاملة غير نظامية عن طريقه بالتلويح له بالرشوة فإن رفض ما عرض عليه لم يفسروا رفضه بطريقة إيجابية بل يعتقدون أن المبلغ الذي عرض عليه حرارته خفيفة لا يكفي لصهره وتذويب ممانعته فلا بد إذن من رفع المبلغ إلى الدرجة التي يتوقعون أن ذلك الموظف لا يقوى على مقاومة العرض فيمرر لهم معاملتهم الفاسدة وعندها يهتفون فرحين بالنتيجة مؤكدين لمن حولهم أن إيمانهم بالعبارة المتقدم ذكرها قد أثبت جدواه فها هو الموظف الممانع ينصهر أمام لغة الأرقام والشيكات بعد أن أوصل المبلغ المقدم له إلى درجة الحرارة والانصهار!. إن هذا النوع من المخلوقات لا يصدقون أبدا بوجود شرفاء أمناء لا يمكنهم إغراءهم بالمال والعطاء، وإنما يفسرون امتناع أي موظف عن الاستجابة لمطالبهم ورفضه لرشوتهم على أنه مجرد تمنع راغب في عطاء أكثر ورشوة أكبر، فلا يكلون ولا يملون عن الاستمرار في محاولاتهم مع استخدام وسائل الضغط والترهيب والترغيب «وتكبير اللقمة» فإن صادفهم في طريقهم المعوج ذو ضمير حي لا تشترى ذمته بالمال أو الجاه أبدا اعتبروه معقدا ووجه فقر لا وجه نعمة وأنه استثناء محدود ومقرود من قاعدة القابلين للانصهار عند درجة حرارة معينة، وفي تلك الحالة يعمدون إلى تجاوز ذلك «المعقد!» إما عن طريق مرؤوسيه المرنين القابلين للانصهار وإما عن طريق رؤسائه الذين لا يحرمون ولا يمللون، فإذا علم الموظف الشريف النظيف أن المعاملة التي أوقفها لعدم نظاميتها أو لما فيها من اعتداء على حق عام أو خاص، قد تم إنجازها وتمريرها حسبل وحوقل وحدث نفسه بفضح ما حصل إلا أنه غالبا ما يتراجع عن المضي فيما عزم فعله لأنه يظن أن حاميها قد يكون هو حراميها!.