في مسار تاريخ الأدب العربي قليلون جدا هم الذين عشقوا اللغة حد الافتتان، لتتحول اللغة إلى وسيلة مطواعة للتعبير عن مكنونات النفس وعمق التجربة وثورة الوجدان، وهكذا كانت ولا تزال تجربة الروائي والناقد البحريني أمين صالح نموذجية في صرامتها الأخلاقية، التي حفرت آثارها في تجارب تلامذة جاءوا من بعده أو جايلوه، وللتكثيف حضور في لغة أمين صالح التي تمتص ما يتبقى من حمم الشمس وتضرجها بالحمرة وتبحر بنا في مياه لا تجفل بل تخر وتتوسل وتدنو وتذعن لفرط معاشرته لها؛ لذا فإن هذا المفتون الفاتن لا يهادن الصمت ولا يرهن وقته لحديث النفس وتقوم رؤيته حول عدة مفاهيم تخلقها الكتابة، ومنها خلق واقع مغاير لفهم الواقع المعاش، فهو يرى «أن الواقع ذو طبيعة مائعة ومتعددة الوجوه، وهو يظهر لنا التناقض والتعقيدات وانعدام الترابط المنطقي على الدوام»، ويصف أمين قضية الغموض في الكتابة بأنها لب كل عمل إبداعي، إلا أنه ليس غموض الإبهام أو التعمية. وفي صدد الكتابة يؤكد على أنها لا يمكن أن تنفصل عن القضايا المعاصرة وعن الهموم المعاشة؛ لأنها بداهة تعبر عن هذه القضايا وتتناولها بشكل أو آخر، ويقول «في كل الأحوال ينبغي أن ندرك بأن الكاتب فرد في المجتمع يتفاعل مع قضاياه ولا يمكن له أن يتناول قضايا خارج هذا الكوكب»، وفي كتابة النصوص يعول كاتبنا على التوظيف للحلم والمخيلة قائلا «الحلم هو الواقع الآخر، السحري والآسر، الذي منه يستمد الكاتب مادته كون الكثير من نصوصه تحاول أن تماثل الحلم في بنائها وصورها والعلاقات بين أشيائها»، وبقدر حضور الشعرية في جميع كتابات أمين إلا أنه يرى أن «الشعر في جوهره لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد أيضا»، ويضيف «ينبغي أن تكون اللغة موظفة شعريا وإلا سقطت في العادية والتقريرية والرتابة، وهذا ما نجده عند كتاب لا يعتقدون أن اللغة طاقة تفجيرية هائلة»، مشيرا إلى أن الكاتب باللغة العادية، التقريرية، التقليدية، لا يستطيع أن يبني نصا يقنع قارئا محترفا، ويذهب أمين إلى أن عملية النقد فيها ولادات كثيرة قد تبلغ حد التجاوزات، منها أن الناقد يأتي إلى النص ليفرض عليه تصوراته ومفاهيمه وقناعاته، ويحاول تطويع النص ليتوافق مع أفكاره أو معتقداته، فإذا لم يجد فيه كل ذلك أصدر حكما طائشا بفشل النص أو ضعفه، ولا ينكر أن له رؤيته في النقد «فالنقد كما يفهمه هو فعل حب، إذ على الناقد، في المقام الأول، أن يحب العمل الذي يتناوله حتى لو اتسم نقده بالقسوة والصرامة، وإلا ما ضرورة أو جدوى تناول عمل أنت لا تحبه أساسا». وعن ترويج الكاتب لأعماله ينتقد أمين الابتذال الواضح الذي راح يمارسه الكثير في سبيل الظهور ولو تجاوز هذا الظهور كل الأخلاقيات المهنية كالكذب وتلفيق الأخبار، مؤكدا أنه «لا يعتقد أن مهمة الكاتب أن يروج لنفسه أو مشروعه أو حتى لنتاجه، بل عليه أن يكتب وحسب، وأن يبدع وأن يرصد ردود فعل الآخرين ليعرف على الأقل إلى أي حد تفاعل الآخرون مع ما كتبه، مشددا على وعي الكاتب بالمسؤولية تجاه نفسه، وهي أن يحافظ على موهبته الممنوحة له؛ لأنها بمثابة النعمة لا يحق له التصرف بها، إضافة إلى مسؤولية الكاتب تجاه الآخرين وتكمن في توظيف موهبته بالاتصال بهم ومعهم.