في كل جمعة أذهب الى مكة.. أحاول دائما أن أعبر من رقعة كانت تسمى حي أنتسب اليه كنت أركض فيه حافي القدمين صغيرا، رقعة عشت فيها زمنا ليس بالقصير مع من تتوسط حقل القلب.. بركان الحنان الذي غفا ولم توقظه غابة من المنبهات.. كأنني بهذا الفعل أحاول أن أحالف الذكرى.. لأكمل بعد ذلك طريقي للمسجد الحرام أطوف واؤدي صلاة الفجر ثم اتجه بعد ذلك الى أعز ركن في مقبرة المعلاة «قبر أمي»، ذلك الركن الذي يذكرني بجمالها وصوتها النحيف المسحون الذي ما زال صداه يرن في أذني.. ضوء الكوخ الكبير الذي لم تترك لي شيئا غيره في هذه الدنيا.. أذهب اليه حتى عندما أكره نفسي من نفسي لتصالحني من نفسي على نفسي.. لفت انتباهي أسرة من أب وطفلين من قطر شقيق وفي يدهم ورقة يقرؤون منها وينحنون على القبر كراحة مسن ويبكون بحرقة من لا يستطيع استبدالها بغير ذلك.. فجأة برز مخلوق من مكان ما في المقبرة بسرعة الوثب الكامل وأخذ يصرخ بصوت عالِ صراخا مزعجا وقاتلا ومدمرا لخلايا الإنسان يصيح في وجه هذه العائلة الصغيرة متوترا منفعلا ويخطف الورقة التي كانوا يقرؤون منها.. سقطت في بحر من الذهول وأنا اتأمل ذلك المخلوق الذي يبدو ان القانون نسيه على طرف المقبرة فراح يزرعها بالصراخ في عرض الصباح واستمر يصرخ في تلك الأسرة أن تكف عن البكاء.. لا يمكنني أن أشرح لكم حجم الذهول الذي رأيته على وجه تلك العائلة وكيف كانت تلك العائلة رغم كل ذلك تجامله كما يجامل موظفا رئيسا جاهلا أحمق مسيئا لا يرحم.. قلت لنفسي يبدو أن الله كتب عليك أن يتبخر كل شيء جميل في حياتك.. دمر البيت الجميل الذي كان ذاكرة القلب الخفية وماتت أمك وها أنت الآن أمام من يحاول أن يمنعك حتى من زيارة قبرها والدعاء لها ومصادرة عواطفك.. ورغم هذا الإحساس العميق بالمهانة الحقيقية كنت هادئا حتى أخرجني ذلك المعتوه من وقاري عندما أمسك وبيد غير مضطربة بكتف الرجل وصرخ فيه حرام.. حرام.. حرام.. كان يصرخ بلا حواس وبلا إدراك كأنه «ربوت» لا علاقة له بالآدميين عندها تدخلت وسألته عن وظيفته وهويته ومن قال له إن زيارة القبور والدعاء للميت حرام!! قلت له هذا الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه اتفق عليه المسلمون من الخليج الى طنجة ومن رأس الخيمة الى وهران ومن بيروت الى تعز.. هل ظهرت أنت الآخر لتؤكد لي أننا لا نتفق على شيء!! وتركته يجادل في أمور كانت من المسلمات وأخذت أدير بصري في المقبرة أتلفت حولي كشاة تتلفت في السوق في محاولة لإيجاد تفسير صعب لإيضاح مستحيل وتركت المقبرة كسيرا كمظلة مطوية ودموع غزيرة تتسرب من وراء قوتي وايماني أدعو الله له الهداية وأن يكف هو وغيره عن تشويه آخر الأديان السماوية وألا يديروا ظهورهم للمعقول والمنطق والمألوف والمقنع والصحيح.. آمين.