منذ ازدهار الإعلام الفردي في العشر السنوات الأخيرة وتأثيره على الإعلام المؤسسي تفشى استخدام كلمتي إبداع ومبدع، وغدت هاتان الكلمتان تطلقان بمجانية لا حد لها، على كل من يقترب من أي عمل فني في شتى ضروب الفن. لقد أصبح مجرد أن يحاول أحدهم أو يطرق باباً له صبغة تنحو الى الفن سواء الكتابي أو الأدائي يصبح مبدعاً، هكذا بكل بساطة! . وعلى ضوء ذلك يتمادى هذا المحاول المبتدئ أو حتى المتمرس في الترويج لنفسه على أنه مبدع ومتميز، وتكرس الصحافة وكل وسائل الاتصال تلك الصفتين. في حين وبنظرة خاطفة منصفة تتأكد حقيقة جلية، وهي أنه لا إبداع سوى بنسبة ضئيلة جدا وإقليمية جداً ولا تذكر في الحراك العالمي لا إبداع نوعيا كثيفا في كل المنتج المحلي والعربي، كما يروج للأمر. لأنه ببساطة أيضاً ليس من إضافة جديدة وأصيلة تضاف الى المنجز الإنساني على وجه العموم، وكل ما ينتج هو من قبيل الاستنساخ والتكرار والتقليد المفبرك. حتى أكذوبة الفن التشكيلي المفاهيمي (المعاصر)، التشكيل في الفراغ، ومنتجاته المتحايلة تجارياً بواسطة الغالريهات الخادعة التي تعرض تلك الأعمال في عواصم أوروبا وتباع بملايين الدولارات، كلها فبركة وصناعة قيمة لما لا قيمة له.. هذا القول (لا إبداع) ينطبق أيضاً على جميع الفنون الكتابية في واقعنا المحلي والعربي: الشعر، بكل ألوانه وقوالبه: تفعيلة أو مقفى أو نثر (هل غادر الشعراء من متردم؟). القصة القصيرة بكل مناحيها وصياغاتها وتناولاتها. الرواية وطرق سردها وتقنياتها وتخيلاتها وموضوعاتها. الكتابة المفتوحة وما تذهب إليه من أفكار وأساليب.. الكل غارق في التقليد. ورغم ذلك تخصص عشرات الجوائز، باسم الإبداع في حقول مختلة. فيا للعجب!. إن ما يسمى إبداعاً في واقعنا هو محاكاة مصنوعة بآليات المشاهدة والنسخ السريع، وهو الفعل المتحول من تجارب أخرى بصنعة ضعيفة البنى والعناصر. هي محاكاة تتخطى الفنون الكتابة لتشمل أنواعا أخرى من المنتجات الفنية، سواء في التشكيل أو المسرح أو الغناء أو النحت أو التصوير الفتوغرافي أو الخط العربي أوالتصميم الجرافيكي وغير ذلك من الفنون المعاصرة المرتبطة بالوسائط الاعلامية المتعددة. لقد نسي وتجاهل الجميع أن المبدع هو من يخلق ما لا مثيل له من فن أو فكر أو عمل، فيأتي خلقه متقناً ومتميّزاً عن كلّ ما سواه على مستوى الناتج الانساني بشكل تاريخي وعام لأنه يضع فيه من ذاته الفريدة ويطبع بصماته الخاصة عليه. وهذا الفعل لا يأتي أبداً بآلية مسبقة النية. كأن يقول أحدهم، في دخيلته، سوف أبدع اليوم قصيدة أو قصة أو رسماً تشكيلياً أو أبدع فيلماً أو برنامجاً يوتيوبياً!.. فعل الإبداع الحقيقي يأتي فجأة ولا يدركه الناس في لحظته، لأنه بالضرورة يكون غريباً، غير مجرب أو معروف من قبل. فيستغرق إدراك الناس له بعض الوقت. كثيراً ما تطلق أنشطة شبابية ركيكة مفادها دفع الشباب الى الإبداع!! تنطق بلسان حال مستتر لتدفع بالشباب نحو (الإبداع)، وكأن الإبداع فعل إرادي يتقصده الفرد فيصله أو يتقصده الأساتذة وأصحاب الخبرة فيعلمونه لتلامذتهم حتى يصبحوا مبدعين!!. هذا المفهوم بدا طاغياً ومسيطراً على الخلفية الذهنية لدى النخب. إن الإبداع قد يأتي أو قد لا يأتي بعد مجهودات مضنية وعمل دؤوب وتجارب لا حصر لها، وأنه إذا أتى فإنما يأتي مباغتاً نتيجة التواصل في التجريب والخطأ. تقام من حين لآخر في بلدان مختلفة من العالم العربي ملتقيات (تيدكس)، وعمودها الأساس هو تقديم التجارب الإبداعية (!!!) وهي لا تخرج عن نطاق التجارب الاجتهادية، ومهما يكن من أمرها، كم أتمنى لو أن ذلك الملتقى يعمل على التحريض على البحث والعمل والاطلاع والتفكير والتجريب، فبكل تأكيد لا يفعل ذلك من لا يمتلك أدوات البحث ومعرفة أساسيات ما يبحث فيه وعنه.. حري بالملتقى أن يبث رسالته بمغلف التحفيز الى صقل الذات والعمل والتفاني في الجهد، لا الإيهام بمقولة: هؤلاء مبدعون وعليكم أن تبدعوا.