الحديث مع السفير الشاعر محمد صالح باخطمة رقيق رقة الماء، وعذب عذوبة شعره السلس البعيد عن المدح والابتذال، ومؤلم في الوقت نفسه لما فيه من نقد وحدة. رفض في البداية فتح الملفات السياسية وكواليس الاجتماعات المغلقة التي شهدها من نهاية الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات الميلادية لحساسية موقفه، لكنه مع ذلك استمالني بآراء يقولها لأول مرة ويصرح بها علانية. أوضح بصراحة أنه لم يجد حرجا في تقبيل يد سيدة الغناء العربي الراحلة أم كلثوم رغم عمله كقنصل عام، والانبهار بشخصية عبدالناصر الذي يرى فيه الزعيم المطلوب لكل زمان ومكان. باخطمة الذي أخفت السياسة شعره عشر سنوات انتقد ما يطرح في ساحة الشعر حاليا وذهب إلى أبعد من ذلك حينما قال: لم يبق إلا الشعر المدفوع. دافع عن جيل الرواد بدءا من حسن قزاز الذي لم ينصف، وعبدالله عبدالجبار الذي تناساه المجتمع، والجفري المطعون من أحبائه. اعترف بعجزه عن رثاء أستاذه عبدالرحمن منصوري وكيل وزارة الخارجية الأسبق للشؤون السياسية، وأوضح أن وفاءه لحمزة شحاتة كان تنفيذا لوصية والده، مبتدئا بتذكر سنوات طفولته رحالا مع والده قائلا: ولدت في أبها عندما كان والدي يعمل مديرا للشرطة هناك، ثم ذهبت إلى المدينةالمنورة وعشت فيها بعض طفولتي، ثم إلى جدة في نهاية الطفولة، ثم عدت إلى مكةالمكرمة عند مشارف الصبا وبقيت فيها إلى أن سافرت إلى مصر لدراسة العلوم السياسية في جامعة القاهرة متخرجا عاشرا على المملكة من مدرسة الرحمانية الثانوية عام 1378ه، حيث بلغ عدد الخريجين في جميع أنحاء المملكة 111 طالبا من القسم الأدبي و96 طالبا من القسم العلمي، عشت فيها وتعايشت مع أهل حاراتها عندما كانت تضاء بالأتاريك وفيها بعض الكهرباء الخاصة مثل كهرباء باحمدين في القشاشية وكهرباء الكعكي فتعمل ستة أشهر وتتعطل ستة أشهر أخرى، حيث لم يكن يضاء إلا الحرم المكي بماكينة خاصة. تأثرت بالحياة العسكرية التي عاشها الوالد تأثيرا كبيرا، فقد رأيت فيه وجهين لعملة واحدة لها من القيمة في سوق الرجال الشيء الكثير؛ فقد رأيت فيه العسكري المنضبط الذي لا يراوغ ولا يداهن ولا يبرر ويعطي كل ذي حق حقه، والأديب الملتزم وقد كانت لديه مكتبة كبيرة أهديناها إلى جامعة أم القرى وفيها الكثير من كتب التراث. تعلمت فيها وقرأت ما تيسر لي من كتب في عطلات الصيف وأوقات فراغي، كما تأثرت بحالة الزخم الثقافي والفكري التي كانت منتشرة في الصوالين الأدبية التي كانت حركتها عامرة ودائبة على مدار الأسبوع. وتعلمت من المجتمع المكي الذي اشتهر باستيعابه كل القادمين إليه وصهرهم في بوتقته دون تفرقة وبأريحية. عندما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة احتضننا المرحوم عبدالرزاق بليلة، وكنا نكتب كلاما يخيل إلينا أنه من الروائع وهو شخبطة فيتقبلها منا ويقومها بحنان أبوي، وبعد أن كبرنا قليلا تلقفنا عبدالغني قستي وعاملنا كأصدقاء، ثم شجعني الأستاذ حسن قزاز رحمه الله ، وكتبت وقتها يوميات، وأفاجأ بعد تخرجي في الجامعة بقرار منه باعتمادي ضمن كبار الكتاب وصرف مكافأة شهرية لي بقيمة 300 ريال، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، فكنت من شدة فرحي بالمكافأة أذهب لشراء كمية من الكتب لقراءتها على مدى الشهر، ثم أقيم وليمة عشاء لأصدقائي على خروف كامل بجميع توابعه ويبقى معي أيضا شيء من المكافأة بعد ذلك. ولا يفوتني أن أوضح أن لحسن قزاز أيادي بيضاء على كثير من الأدباء، وللأسف لم يراع له هذا الدور من جريدة البلاد، بل أنكره الأقربون قبل الأبعدين في أيامه الأخيرة وبدون سبب معلوم. • هذا المجتمع المكي الذي يستوعب كل الناس، لماذا فشل في استيعاب مشكلاته الداخلية؟ الحقيقة أن كبار مكة وشخصياتها المؤثرة انقرضوا ولم يعد هناك كبير فيها يشار إليه بالبنان، ولم يكن هناك جيل ثان مهيأ لهذا الدور أيضا حتى من أبناء من كانوا قادة للرأي والفكر والمجتمع، وأصبحوا مشغولين بالحياة الخاصة والتجارة والكرة وكل شيء مما لم يترب عليه آباؤهم. • وأنت لماذا لم تعد إلى مكة بعد التقاعد؟ الله لا يحرمنا منها، لكن مكة الآن تغير مجتمعها ونحن تربينا على حب الزمان والمكان. كنا نسكن في أجياد ما بيننا وبين أم هاني دقيقتان فنسمع الأذان ونحن في السطح فنذهب إلى صلاة الفجر لنشهد في الحرم أجمل فجر يمكن أن يشهده إنسان في الحياة على هذا الكون، أما الآن فأذهب لأشعر بالغربة ثم أعود. • لكن الوالد لم يفرض عليك الالتحاق بالعسكرية كما كان يفعل الكثير من الآباء في ذلك الوقت؟ لم يكن رحمه الله مستبدا في رأيه بل ترك لي حرية الاختيار انطلاقا من مبدأ آخذه على نفسه (لا تجعلوا أبناءكم مثلكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم)، بل إنه تحمل تكاليف ابتعاثي إلى القاهرة من جيبه الخاص عندما وقف البعض في طريق التحاقي بالبعثة عن طريق وزارة المعارف. • من تقصد بالبعض؟ سامح الله الوزير عبدالوهاب عبدالواسع رحمه الله عندما اخترع فكرة المقابلة الشخصية لاختيار الطلبة المبتعثين، فذهبت إلى الرياض لاجرائها وكان من ضمن لجنة المقابلة الأستاذ عبدالرحمن تونسي، وبعد عدد من الأسئلة في الأدب وغيره، فوجئت بسؤال غريب من الوزير يقول: من يرث الآغا؟ فقلت له: كلفتم أنفسكم تذاكر سفر وسكن لتسألني هذا السؤال، وطلبت منه أن يجيبني هو على السؤال مع تنازلي عن البعثة. وانتشر الخبر بعد عودتي إلى مكةالمكرمة، فكتب المرحوم حامد مطاوع في جريدة الندوة مقالا بعنوان (طالب متفوق يحرم من البعثة لعدم إجابته على سؤال: من يرث الآغا؟)، وفي ظل هذا الوضع قال لي والدي رحمه الله : ستذهب للدراسة على حسابي، وستتعلم إلى أعلى المراتب العلمية، وأنا دائما أقول: لا بجدي ولكن برزق أبي وجدي. • متى شعرت أن لديك موهبة الشعر؟ كنا نذهب إلى الطائف في الصيف كطبيعة الوجهاء من أهل مكة، ولنا بيت في حي السلامة في الطائف، ويشرف على مساحات كبيرة خضراء من البساتين، فحفظت وأنا في العاشرة من عمري رائعة أحمد شوقي (مسرحية مجنون ليلى) على ضوء القمر فأخذت جزءا من بصري، وحفظت الكثير من الشعر ونسيته كما قلت الكثير من الشعر ونسيته أيضا. ومن هنا بدأت وكانت أولى محاولاتي في صحيفة دنيا الطلبة، وفي تلك المرحلة العمرية توقع الكثير من زملائي أن يتغلب الغزل على شعري لكن ذلك لم يحدث لأن للمجتمع سطوته وأخلاقياته، فكنا نتحايل على ذلك بكتابة تهيؤات من عينة: يا أيها البحر أو يا أيها القمر وهكذا. • ومتى بدأت الانطلاقة؟ من القاهرة فقد خرجت من مجتمع شبه مقفل إلى انفتاح كبير في الحركة اليومية والثقافية. تعلمت في مصر من اليوم الأول لوصولي عام 1958م كيف أجلس على الطاولة والأكل بالشوكة والسكين والذهاب إلى الجامعة التي ترى فيها كل شرائح المجتمع من متدين ويساري وملحد في فترة كانت كلها إرهاصات فكرية وثورات. ولم أشعر فيها بالصدمة الحضارية لأنني عشت في مجتمع مكة بخصوصية تقبله لكل جديد من مختلف الثقافات وعلى مدار العام، وزاملني منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا أخي وصديقي محمد عقيل صالح، نعم الرفيق والصديق. ومن حسن حظي أنني لم انقطع عن القاهرة من 1958 إلى 1973م إلا ستة أشهر التي تلت عودتي إلى المملكة بعد حصولي على البكالوريوس؛ فقد تقدمت للعمل في وزارة الخارجية مع زميل لي بعد الإعلان عن الحاجة ل 14 موظفا ملحقا، وكان يتوجب عقد امتحان لنا فتم تجاوزه وتعييننا بالتزكية في اليوم نفسه. ولم يخطر في بالي أن أعود إليها في أول مهمة دبلوماسية فقد كنت أتطلع للذهاب إلى إسبانيا لدراسة كيف سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، أو إلى اليابان لدراسة كيف نهضت من كبوتها بعد الحرب وتحضير رسالتي الماجستير والدكتوراة، وفوجئت بصدور قراري يوم الخامس من ذي الحجة ومباشرة العمل يوم التاسع من الشهر نفسه، ولم يمض على زواجي سوى أربعة أشهر، وكنت في تلك الفترة في الثالثة والعشرين من العمر فأصبحت أصغر دبلوماسي في تاريخ الدبلوماسية السعودية. • هل كانت الثورات مشابهة للثورات العربية التي تحدث الآن؟ تختلف الوجوه والأسباب الآن عن تلك الثورة التي كانت مختلفة وتقودها صوت العرب بالامتدادات القومية والإرهاصات غير المتوحدة. • لكنك تأثرت بعبدالناصر كثيرا رغم حساسية موقفك كدبلوماسي في السفارة السعودية؟ بالرغم من أن مجتمع مكة في ذلك الوقت يعطي الإنسان الكثير من الانضباط في مشاعره ومواقفه، كما أن تربية والدي العسكري التي كان يركز فيها على عدم الانحياز إلى طرف دون آخر أثرت في كثيرا، إلا أنني انبهرت به كزعيم، ولكن عندما رأيت ما جره أذيال الناصرية والمحسوبين عليها من جرائم سقطت من حسابي، ولكن يبقى عبدالناصر الزعيم الذي يحتاجه أي وطن في أي وقت. • ألم تخلق لك هذه الميول مشكلات في عملك؟ أنا لم أكن ناصريا وإنما المسألة مجرد إعجاب وتعاطف، أما ولائي فكان وما زال وسيظل لبلدي التي واجهت في تلك الفترة كل الأعداء من كل مكان حتى أنهم كانوا يقولون موغلين في العداوة لها: لن ترجع القدس إلا عن طريق الرياض. ولكن من حسن حظ هذه البلاد أن قيض لها في تلك الفترة الشهيد الملك فيصل رحمه الله الذي ربط زمامها وكان رجل كل حادث وكل حديث، بل أستطيع أن أقول إن عهده شهد ولادة دولة سعودية جديدة. • وهي نفس الفترة التي توطدت فيها علاقتك بنخب الفن والثقافة في مصر؟ تتعجب لو عرفت أنني تمنيت قبل أن أذهب إلى القاهرة أن التقي بحمزة شحاتة وبعبد الناصر وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وكتبت هذا في كتابي ولكن لم أفصح عنه، وكثير من الناس في تلك الفترة لا يعرفون من هو السفير وإنما كان الشخص الذي يرونه ويتعاملون معه في التأشيرات والمناسبات والتصاديق هو القنصل مع أن السفير السعودي في القاهرة في تلك الفترة كان الشيخ محمد عبدالله علي رضا، وكنت متحفظا بحكم وضعي في السفارة من السعي لهؤلاء في ظل الوضع السياسي المتأزم مع عبدالناصر وخطبه وما كانت تثيره إذاعة صوت العرب، وشاء الله أن تأتي السيدة أم كلثوم رحمها الله إلى السفارة لتطلب من رجل الأمن مناداتي بالاسم، فذهبت لها وهي في سيارتها الكاديلاك فسلمت عليها وقبلت يدها وقلت لها: ليتك أبلغتينا بقدومك لنفرش لك البساط الأحمر فضحكت وقالت: رامي أرسلني لك وأعطتني جوازها الدبلوماسي لرغبتها في الحصول على تأشيرة زيارة فوعدتها بإنجاز ما تريد على أن أنهي إجراءاتها بنفسي وإعادة الجواز لها بنفسي، وفعلا ذهبت إلى منزلها في مساء نفس اليوم فاستقبلتني بترحاب كبير وقدمت لي شرابا عجيبا مكونا من عصير القصب بالجزر دافئا فتعجبت، فقالت لي: أنا لا أشرب البارد، ثم أعطتني رقم تلفونها الخاص وكانت ترسل لي ولزوجتي «بون» لكل حفلاتها على مدار السنة، وكنا نجلس في الصف الثاني مع الشاعر الكبير أحمد رامي رحمه الله، وقد أبكتني وأبكت الملايين في آخر حفلة لها عندما غنت (يا مسهرني) لأنها كانت متعبة جداً فمالت على بوكيه الورد وأقفل الستار وكانت تلك أخر مرة نراها. • وهذا يعني أنك تعرفت على أحمد رامي مبكرا؟ التقيت به مع كثير من النخب المصرية في المجلس الذي كان يقيمه الشاعر إبراهيم فودة في القاهرة، وقد قال في أم كلثوم المقولة الشهيرة: لم يبق بعد أم كلثوم بعد. • يقال إن العمل الدبلوماسي أخفى شعرك؟ نعم، أخفاه عشر سنوات خصوصا في الفترة التي عملت فيها في جدة مديرا لمكتب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية عبدالرحمن منصوري رحمه الله وهي الفترة التي شهدت اندلاع اتفاقية كامب ديفيد السلام مع إسرائيل ثم ثورة الخميني وما فيها من إرهاصات ثم احتلال العراق للكويت، وكل هذه الأحداث كانت تثيرني لأكتب الشعر ولكنني لم أكتب، والحمد لله رجع لي المخزون كله بعد التقاعد فكتبت أجمل ما لدي من شعر، مع أنني كتبت في القاهرة أفضل شعري ونشرته في جريدتي عكاظ والبلاد وفي مجلة الهلال حيث نشر لي الشاعر صالح جودت رحمه الله آخر أدباء المجالس قصيدتين. • هل نشر لك الشعر مجاملة أم اعترافا بشعرك؟ لا، اجتمعت معه في مناسبة لدى صديق يعرف ميولي فجمعنا مع بعض وجلسنا نتبادل أطراف الحديث فقال لي: أحس أن فيك روح الشاعر، فأخبرته: إنني رجل مجتهد، لكنه أصر على أن ينشر لي في ملحق الزهور فتأخرت في إرسال القصائد إليه، فهاتفني مستفسرا، فقلت له: الظروف السياسية لها دور في تأخري، فقال لي: تذهب السياسة وتبقى الثقافة فوق كل شيء فشجعني فكتبت قصيدة باسم (فراشة) في ليلة واحدة. وكذلك فعل فاروق شوشة في برنامجه الشهير (لغتنا الخالدة) عندما أذاع لي أكثر من قصيدة. • عملت في وزارة الخارجية السعودية في فترة كانت فيها مليئة بحزمة من كبار رجال الدولة، فما الذي استفدته منهم؟ عملت في وزارة الخارجية عندما كانت مطلبا لأبناء العائلات مع رجال اغترفت شيئا منهم لأن لكل واحد منهم مزايا تكفي لجيل. وقد عملت فيها بمرتبة أقل من مراتب الدولة لأكون مع صفوة الصفوة من المتعلمين من الرجال الذين يعملون تحت مظلة الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله الذي كان لي أبا حنونا ولي معه مواقف لا تنسى؛ فقد كنت أقدم المواطنين له عندما يأتي إلى القاهرة. الخارجية التي كان موظفوها لا يلبسون الحذاء العادي ولا تراهم إلا بالمشلح دائما. فقد تعلمت من سفيرنا في القاهرة الشيخ محمد عبدالله علي رضا رحمه الله الذي عملت تحت إمرته قنصلا عاما، التفاني في خدمة الوطن والناس وأن الوطن يهون في سبيله الغالي والنفيس، ثم تعلمت من السيد محمود المرزوقي حفظه الله البساطة في التعامل والبشاشة في مقابلة الناس وقضاء حوائجهم حتى وإن مسه شيء من الحرج، ثم الشيخ عبدالرحمن منصوري رحمه الله الذي عملت مديرا لمكتبه وتعلمت منه الدقة في تلقي المعلومات والدقة في تقييمها والدقة في عرضها بما يتناسب مع المصلحة العامة وليس رغبة المرسل إليه. هذه هي الخارجية التي كانت جامعة ولكنها أقفلت أبوابها منذ سنوات بغياب هؤلاء الرموز. • هذا الكلام قبل مجتمع الطفرة؟ الطفرة التي تتحدث عنها أساءت للمجتمع أكثر مما أحسنت وللأسف. • إلى أي مدى أثرت فيك وفاة بناتك وحفيدتك بسمة؟ أبداً، فقد رحمني ربي بأن قلت الشعر فنسيت الألم وقصيدتي الرثائية الأولى فيهن كتبتها على ظرف من ظروف العزاء التي وصلتني وأنا جالس في العزاء، ثم كتبت قصيدة ثانية وثالثة، ومن نعم الله أنه أثلج صدري وطيب خاطري مع أن الرثاء من أصعب أنواع الشعر. • لكنك لم ترثي أستاذك عبدالرحمن منصوري رحمه الله؟ لم أستطع رثاءه وإنما بكيت على نعشه بكاء مريرا وهو ممدد، وهو من الرجال الذين لم ينصفهم المجتمع ولا وزارة الخارجية. • ما هو نصيب القصائد الممنوعة في شعرك؟ ليس لدي أية قصائد ممنوعة. • من هو الذي قصدته في قصيدة السراب ووصفته في آخر بيت بالجيفة العفنة؟ هو شخص وضعه الزمان بين عينيك ولم تكن ترجو منه شيئا وهو يرجو منك ثم ينسل فجأة فتشعر بالنكران الذي لا تتوقعه منه مع أنني لست في حاجة له. • وهل هو السبب في قلة أصدقائك؟ من كثر أصدقاؤه قل وفاؤه، ولكنني دائم المحبة وكل من عرفني إما أنني أعجبته أو على الأقل احترمني. • وأين أنت من نادي جدة الأدبي؟ أنا لا أعرف إلا مكانهم. • هل هذا تقصير منك أم منهم؟ في فمي ماء. • لماذا لم تقل شعرا في جدة المنكوبة؟ أنا أختزن في داخلي مثل سكانها وأسأل الله أن يعيد لها بسمتها. • الملاحظ أنك لا تكتب قصائد مدحية لأحد؟ قصيدة واحدة كتبتها في السيد عبدالله عبدالجبار، ولا أقول إنني مدحته ولكن حاولت أن أعطيه حقه. الرجل الذي كان يحب العزلة وإذا وجد في المجلس أو مع من يزوره شخصا لا يعرفه يصمت ويغمض عينيه من فرط حساسيته وأدبه فلا يرفع صوته ولا يجاهر ولا يقول: لم أتيت بهذا، ولا يعاتب. وقد وصفته بأن في صمته كلاما وفي كلامه حكمة. وقد ظلم كثيرا من المجتمع كله وتناساه الناس، وللأسف أن مجتمعنا دفان يدفن الناس وهم أحياء ويترحم عليهم إذا ماتوا ومن هؤلاء كثير. • وقصيدتك في محمد حسن فقي؟ شرفني بالرد على قصيدتي. • ما دمت لا تمتدح ولا تتملق، فلماذا طلبت من عبدالمقصود خوجة طباعة ديوانك؟ كانت مبادرة كريمة وتلطفا منه ولم تأت بطلب مني فأنا في حياتي لم أطلب أحدا إلا الله، وقد كان الرجل أمينا وصادقا وأخرجه أفضل إخراج. • ولكنك امتدحت كثيرا في مقالات أصدقائك خصوصا من عبدالله جفري رحمه الله الذي كان البعض يعتبره كاتبا نخبويا؟ لم يكن مضطرا لمجاملتي بما ليس في شعري، ولعلمك فالذي لا يعرف طفولة عبدالله جفري لا يعلم كم استدعته تلك الظروف للسير في حقول من الألغام، فقد عاش حجما من المعاناة واليتم التي أثرت في حياته وشكلت شخصيته ورغم ذلك فقد كان متفردا ومخلصا وصاحب موقف ولا يتلون في زمن أصبح التلون فيه ميزة، ومما يحزنني أنه طعن ممن كان يعتقد أنهم أحبابه بطريقة أشبه بمن يقتل بنيران صديقة. • لماذا توقفت عن الكتابة في الصحف مع أنك تملك الوقت والأفكار كثيرة ومتسارعة في الساحة؟ أقول قولة أستاذي حمزة شحاتة (الآن انطفأ السراج). • ما خصوصية علاقتك مع الأديب حمزة شحاتة التي دفعتك لتصدر عنه كتابا؟ أولا وصية والدي لي فقد أوصاني بخمسة أشخاص طلب مني إذا وجدتهم في القاهرة أن أقدم لهم رعاية خاصة ومنهم الأديب الكبير حمزة شحاتة الذي رأيته لأول مرة عندما كنا في منزل الشاعر إبراهيم فودة الذي كان مجمعا للأدباء والمفكرين، وتمنيت من يومها أن يجمعني الله بهذا الرجل الذي يجلجل صوته في المكان وكل كبار الأدباء والمثقفين ورجالات مكة ينصتون له دون أن يهمس أحدهم ببنت شفة. بهرني الرجل بأسلوبه وتسلسل فكره وحديثه الشيق وملكته ناصية الحديث في كل شيء، وقد عشت معه آخر سبع سنوات من حياته ولم نكن نفترق إلا في وقت ذهابي للعمل في السفارة فأردت أن يقرأ الناس عن هذا الرجل الأشياء التي عرفتها عنه ولا يعرفها حتى بناته. • هل هناك أشخاص غير حمزة شحاتة لم يأخذوا حقوقهم؟ بل على العكس فهناك أناس أخذوا أكثر مما يستحقون. • من تقصد؟ الساحة أمامك، ولك أن تحكم بالمقارنة مع ما قدمه الكبار والرواد وما أخذوا، وما لم يقدمه هؤلاء وما يحاطون أو يحيطون به أنفسهم من اهتمام. • لماذا قلت إن الكثير من شعراء الثمانينيات يلبسون عباءة نزار وتناسيت الجواهري بقامة شعره؟ الجواهري سابق لزمانه لكن لم يصطنع التجديد في شعره، أما نزار فاصطنع وتأثر به أغلب شعراء الثمانينيات إلى الوقت الحالي حتى العبد لله تأثر به. ولا يوجد في مبلغ علمي وجهلي بعد تلك القامات من يسد فراغهم فالساحة خالية. • ومن شعراء المهجر؟ هضمت شعرهم واستفدت منهم السلاسة وعدم التعقيد، والشعر كله اختفى ولم يبق الآن إلا الشعر المدفوع للرثاء والمديح فقط. • لكنك لم تتبحر في السياسة شعرا؟ لم أكتب سوى قصيدة واحدة في السياسة بعنوان (الحب والسياسة) وألقيتها في حفل تخرجي في جامعة القاهرة في جمعية العلوم السياسية التي كان يرأسها الدكتور بطرس غالي وبحضور وزراء وسفراء من بلدان مختلفة ومنها: أنا لا أؤمن بالقوة إلا في العيون العسلية. • ما هي خلفيات قصيدتك في صدام؟ رأيت صدام حسين عندما كنت طالبا في جامعة القاهرة يجلس في مقهى في ميدان الدقي حيث أسكن، ثم رأيته آخر مرة في مؤتمر بغداد فكان كالأسد الجريح ينظر إلى كل القادة بنظرة مرعبة والتي قال فيها يا عرب اللسان وكان يشير لهذا ولهذا والكل مطأطئ رأسه ما عدا خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله، ثم رأيته حينما خرج من الحفرة مكبلا بالسلاسل فأيقنت أن الفأس وقع في الرأس. • هل تهرب من همومك إلى الشعر؟ أنا لا أسعى إلى الشعر لأفرغ همومي ولكن أنا أعتقد من رحمة الله عليّ أني أصلي وأدعي وأما إذا جاء الشعر فهو تنفيس عن النفس. • لماذا لم تكتب مذكرات المرحلة الحساسة التي عايشت فيها الكثير من المواقف والأحداث؟ لدي الكثير من الوثائق والمعلومات وما شاهدته وسمعته بنفسي خلف الأبواب المغلقة ولكن لم تحن ساعة كتابتها بعد.