هائجة سريعة مظلمة كثيفة الغبار شديدة الوطأة، خلال ما لا يزيد عن 72 ساعة؛ ضربت عاصفة داعش الصحراوية، في عمق الصحراء -في الرمادي العراقية، وعلى جانبها المقابل في تدمر السورية-، لتنجلي عن آثار لا تقل دمارًا وخرابًا عن منطقة ضربتها عاصفة حقيقية. لكنها في المقابل، كانت لداعش "عاصفة صحراء" -كالمسمى الرمزي لحرب الخليج الثانية-، فقد ضاعفت المساحة الجغرافية لداعش بمقدار الثلث على الأقل، في عمق الصحراء السورية-العراقية، وهو ما يظهر عبر نظرة سريعة بسيطة على الخارطة المشتركة بين سورياوالعراق؛ إذ رافق الامتداد العرضي لداعش من الموصل للرقة (460 كم تقريبًا)، امتداد طولي باتجاه الجنوب، داخل العراق من الموصل للرمادي (400 كم تقريبًا)، وداخل سوريا من الرقة لتدمر (250 كم تقريبًا، دون طريق واصل)، أدى لامتداد عرضي من تدمر إلى الرمادي (620 كم تقريبًا)، لتشكل شبه مستطيل شبه كامل السيطرة لداعش ما بين البلدين، باستثناء بعض مناطق محافظة دير الزور ومطارها، وبعض النقاط العسكرية التي يسيطر عليها النظامان السوري والعراقي، والتي أصبحت معزولة ومحاصرة وفاقدة الفعالية كجزر في بحر من الدواعش. هذا الامتداد الكمي في عمق الصحراء ليس أهم النتائج؛ إذ رافقته نتائج نوعية سكانية واقتصادية وعسكرية، استطاعت تحقيقها بهذه العملية المباغتة على الطرفين، والتي يمكن تمثيلها بتأمين عمقين رئيسين: العمق الجغرافي بتدمر، والعمق الديموغرافي بالرمادي. تدمر: العمق الجغرافي تمثل تدمر بالنسبة لداعش نقطة واصلة تحتاجها ما بين نقاط سيطرتها وجبهات معاركها؛ إذ إنها تأتي قريبة من معاركها وجبهاتها القريبة، بكل الاتجاهات: فإلى الشمال تقربها مباشرة من معركة دير الزور التي حاولت بها سابقًا ولم تستطع، وإلى الشرق تربطها بجبهة العراق الكبيرة، خصوصًا في معركة بيجي التي طالت كذلك، أما إلى الغرب فهناك معاركها في حمص، وتأمين امتدادها في السخنة والقريتين، وتمدها مباشرة كذلك إلى القلمون في معركتها التي تخوضها هناك مع الثوار السوريين. ما يفيد داعش، مع خبرتها العسكرية الطويلة في المعارك الصحراوية مقابل غياب هذه الخبرة لدى خصومها، هو أنها لا تملك طريقًا رئيسًا إلى الشمال أو الجنوب، وإنما شرقًا وغربًا فحسب؛ مما يجعل الدفاع عنها أسهل بالنسبة لداعش، والانطلاق منها أفضل وأنسب للدواعش. وبجانب الآثار، التي غطت على بقية آثار سيطرة داعش على تدمر، والتي تؤمن مصدر دخل تحتاجه داعش من خلال بيعها وتهريبها وفرض الضرائب على ذلك، فهناك حقل غاز الهيل، ثاني أكبر حقول الغاز بعد حقل الشاعر الذي تسيطر عليه داعش كذلك، واللذان يشكلان جزءًا من الحوض التدمري عالي الإنتاج للغاز، وشركة الآراك، وتستخدمهما داعش إما لتأمين المزيد من مصادر الدخل من خلال بيعها والاتجار بها، أو استخدامها مباشرة لتأمين الطاقة لمناطق سيطرتها. الرمادي: البعد الديموغرافي كانت الرمادي آخر النقاط التي لم تسيطر عليها داعش تقريبًا في محافظة الأنبار السنية الصحراوية، والتي تمثل معقلًا لداعش منذ تأسيسها وتشكيلها منذ أبي مصعب الزرقاوي، وبذلك فقد استفادت داعش من الآبار النفطية أو النقاط الاستراتيجية الموجودة هناك سابقًا، لكن القيمة المضافة الجديدة بالسيطرة على الرمادي، بجانب كونها المركز المدني للأنبار، هي البعد السكاني الديموغرافي في الرمادي. بعد توغل ميليشيات الحشد الشعبي وعنفها وطائفيتها، وتخلي الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة -والتي كانت يفترض أن تحمي المدينة بعد النداءات المتكررة لزعمائها- إما لأسباب إقليمية أو طائفية أو كمحاولة للعقاب الجماعي -إذ كانت الأنبار هي مركز الثورة التي ثارت على سياسات المالكي وتمردت عليه في 2013 والتي انتهت بقمع جماعي-، وأخيرًا مع تخلي أمريكا -التي سلحت عشائر الأنبار سابقًا ضمن مجالس الصحوات الذي استطاع إخراج القاعدة خلال ص006 – 2008- لصالح الهيمنة الإيرانية بعد انسحاب القوات الأمريكية في 2011، ومن ثم رفع يدها بشكل شبه كامل لضمان استمرار الصفقة النووية الإيرانية؛ لم تجد عشائر العرب السنة في وجه الاحتلال الإيراني والقتل الطائفي على يد ميليشيات الحشد الشعبي سوى داعش، والتي تجد لها امتدادًا تاريخيًا منذ بداية أيامها هناك. ضمن ديناميات داعش وتحولاتها (من القاعدة في العراق، إلى الدولة الإسلامية في العراق، إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام، وإلى ما تعتبره الدولة الإسلامية أخيرًا)، لم تكن داعش في سوريا كما هي في العراق؛ فمقابل الامتداد الاجتماعي الذي تملكه في العراق بسبب تشكيلها، والظروف الذاتية التي تتمثل بالاندماج الهوياتي العسكري السياسي (ما بين بقايا البعث والعرب السنة والسلفية الجهادية معًا) والموضوعية المتمثلة بالطائفية الفجة المتطرفة أو المضادة للاحتلال وفظائعه، التي عززت المشروع الهوياتي الذي تتبناه داعش -وبررته في بعض الأحيان-؛ لم تملك داعش هذا الامتداد الاجتماعي في سوريا؛ إذ بقيت تعامل كقوة احتلال تسيطر على المناطق وتستفيد منها عسكريًا واقتصاديًا (بالآبار النفطية مثلًا والقوات العسكرية)، أكثر مما تستفيد منها في سوريا بالتجنيد أو التوسع الداخلي، ولعل توزيعها للقيادات العراقية في العراق، والجنسيات الأخرى في سوريا -بالغالب؛ إذ إن هناك استثناءات لكل ما سبق الحديث عنه، لكنه كنسق أكثر عمومية-، يمثل إدراكًا من داعش لهذه النقطة. وانطلاقًا من ذلك، فإن معظم عشائر وسكان الرمادي، ومع التطرف الطائفي لميليشيات الحشد الشعبي وتوسعها، وفشل مشروع الصحوات، لم يجدوا بديلًا في الوضع الحالي سوى الانضمام لداعش، وهو ما يمنحها بعدًا رمزيًا كبيرًا لدى العرب، انطلاقًا مما تمثله الرمادي كمركز عشائري على مستوى العراق، أكثر مما تمثله الموصل الأقرب للحالة المدنية، وما سيمنح داعش هذا الامتداد السكاني الذي تحتاجه ضمن مشروعها، واتساقًا ضمن بنيتها وهويتها الصحراوية البدائية البعيدة عن المدنية. واحتنا أو سرابنا ومما يلفت النظر في هذه المعركة، هو امتدادها وتنسيقها على الجانبين السوري والعراقي في ذات الوقت، في وقت يضعف به كلا النظامين -على يد فاعلين، أقلهم تأثيرًا ضمنهم: داعش نفسها-، واستغلالها لذلك مع استخدامها لخبرتها العسكرية في قتال الصحراء والاختباء والتنسيق لأكثر من عقد هناك؛ مما سمح لها بذلك، مما يكشف عن تنسيق عسكري وسياسي عالٍ داخل صفوفها. في المقابل، لم يستطع الثوار السوريون -مثلًا- إيجاد مثل هذا التنسيق واختيار المعارك ضمن هذه المساحات أو هذه الأوقات الزمنية؛ مما أفقدهم قوتهم وزخمهم واستغلالهم للفرص، وهو ما جعل داعش تتقدم سريعًا على حسابهم، وخسارتهم لمكاسب سابقة أو فرص حالية مع غياب للمخططات القادمة أو اللاحقة، فليس عتبًا على داعش أن أجادت لعبة الصحراء وهي ابنته، لكن العتب والقلق على المسافرين بالدم والدمع في التاريخ بأن يختاروا معاركهم، ويستوضحوا رؤاهم فتكون لهم واحات يحررون بها ويبنون، أو سرابات يصنعونها بغياب رؤاهم، والخيار لهم، في الصحراء، وفي المدن.