د. محمد آل عباس الاقتصادية - السعودية عانت أوروبا قبل الثورة الصناعية مشكلات اقتصادية نشأت بسبب ما سمي بعد ذلك "بالمركنتليه"، أو زمن التجار والسبب في معاناة أوروبا حينها أن الاقتصاد كان يدور حول شخصية التاجر وليس الأمة، وأن قيمة الاقتصاد بعدد التجار العاملين فيه، وقيمة التاجر بحجم ثروته، وهذه الثروة كانت تقاس فقط بالنقدين الذهب والفضة. لذلك اتجه جميع التجار إلى المنافسة في جمع هذه الثروة من الذهب وتكديسها، وأصبح الشراء عادة سيئة غير محمود، ومن يبيع ثروته فقد باع مستقبله وشرفه، وانتهت تلك الحقبة عندما نشبت أوروبا في حروب لا تنتهي، وقودها المجتمعات، ويوقدها تجار همهم تكديس الذهب والفضة، حتى جاءت الثورة الصناعية لتصهر الجميع في مفهوم "ثروة الأمة" التي لا يستطيع فرد أو مجموعة أفراد ممن يمتلكون وفرة من أحد عناصر الإنتاج أن يحققوا أي نجاح، إلا إذا تكاملت العناصر مع بعضها. لقد تعلمت أوروبا والغرب بأسره وعلموا العالم معهم أن احتكار أي عامل من عوامل الإنتاج سيجر الاقتصاد بأكمله إلى المهالك، ومن ثم يتفكك المجتمع وتسير الأمة نحو المجهول، لهذا جاءت الثورة الصناعية لتصهر عوامل الإنتاج كلها، ويشارك الجميع كل بما يملك حتى لو لم يكن معه سوى قوته البدنية من أجل هدف تعظيم العوائد للجميع. لم نستطع في المملكة حتى اليوم أن نضع خطوة واضحة في عالم الثورات الصناعية، وأحد الأسباب فيما أعتقد هو احتكار عوامل الإنتاج. ومن أهم العوامل الأرض الصالحة للاستخدام. فلا توجد تجربة أكثر سوءا من محاولة شراء عقار من شخص لا يريد بيعه. يعلن عن البيع لتتصل به في أوقات العمل فلا يرد، تتصل به أخرى ثم تكرارا حتى يرد بصوت المنزعج منك، تسأله عن العقار وسعره فيرد بأنه "تحت السوم"، لن يعطيك سعرا ولا القيمة ولا ثمنا، بل يضعك في دوامة "السوم"، تذهب إلى أهل العقار والعارفين والمثمنين تريد سعرا معينا للمتر في هذه المنطقة أو تلك، فتجد لكل مكتب سعره وتثمينه، فلا مرجعية ولا شيخ لهذه المهنة. لشراء عقار عليك أن تجتهد في العقار ما وسعك لتضع سعرا متوسطا للمتر، وتعود إلى صاحب العقار المنشود وتضع سومتك فيجيبك ببساطة "تعدتك السومة". ورغم مرارة العبارة إلا أنها انفراج لتفاوض غير رسمي، فهناك سعر يمكن البناء عليه، لكن عندما تسأله كم السعر الآن؟ يجيبك "أنت كم سومتك، مالك في غيرك". دوامة، لا تنتهي، وعندما تشدد في التفاوض يسمعك أقسى العبارات عن سوء درايتك بالعقار وأهله، ثم يطلق أسوأ عبارة في عالم العقار في المملكة العقار لا يأكل ولا يشرب. تعود بعد سنوات لتجد نفس العقار في مكانه لم يتغير حاله، والرقم نفسه موجود وعبارات الترويج التي لم تؤثر فيها العواصف، فإذا سألت عادوا بك إلى الدوامة نفسها، فإذا أخبرتهم بأن العقار على حاله من سنوات، جاءتك العبارة الثانية والخالدة في سوق العقار العقار يمرض ولا يموت. نعم العقار لا يأكل ولا يشرب، لكنه على هذه الحالة لا يستطيع أن يطعم أسرة أو يسقيها فضلا عن مجتمع، والعقار ثروة، لكن الاقتصاد مجتمع. العقار يمرض ولا يموت، لكنه يمرض اقتصادا ويقتله ويقتل معه المجتمع، وأسرا لم تجد عملا بسبب تعطيلنا أهم عوامل الإنتاج وهو العقار. كيف للمصانع أن تنشأ والعقار لا يأكل ولا يشرب، ولا يريد أن يأكل مع أحد أو يشرب معه، فهو معطل على حاله منذ عقود، كيف للأمة وللناس أن تنهض في كل صباح وتعمل، إذا لم تجد مأوى في المساء ولا مكانا للعمل في النهار، فالعقار مريض، ولكنه أمرض معه المجتمع وقد يقتله. ما أصيبت به أوروبا في زمن التجار نصاب به اليوم، لكن مع اختلاف بسيط، ذلك أوروبا كانت تقيس الثروة بالذهب والفضة وتكديسها، ولدينا اليوم تقاس الثروة بتكديس العقار واحتكاره. فأصبح كل من لديه فائض نقدي يبحث عن عقار، خاصة الأراضي البيضاء، وبقدر ما تجمع من هذه الأراضي البيضاء بقدر تصنيفك ضمن الأغنياء والأثرياء والشيوخ. أراض شاسعة بيضاء معطلة وفي قلب المدن والمناطق العمرانية، وهي تعطل معها خدمات حكومية لا حصر لها، وليس لدى أصحابها رغبة في البيع، وأي إعلان يتم وضعه للبيع إنما هو مجرد مقياس لتذبذب الثروة حسب تذبذب "السومة". حتى إن هذه العادة السيئة قد انتقلت إلى الهيئات الحكومية والشركات، فإذا فاضت الأموال في يد هيئة "حكومية" ما وبدلا من خدمة المجتمع، يقرر مجلس الإدارة شراء أرض وتعطيلها، وزارات وشركات لديها أراض شاسعة في مناطق عمرانية غير مستغلة. ولهذا نفهم كيف أن الأراضي البيضاء تشغل 60 في المائة من حجم المساحة العمرانية في المملكة. بينما هناك 60 في المائة معطلة اقتصاديا، 60 في المائة لا تأكل ولا تشرب، وأيضا لا تطعم ولا تسقي حتى مالكها وأسرته، نجد مجتمعا مكدسا في أحياء بدأت تنتشر فيها المشكلات الاجتماعية والبطالة. وفي تقرير نشر قبل سنوات أن أثرياء السعودية في المركز الأول في مجمل الثروات التي يملكها أفراد في الشرق الأوسط، فهناك قريب من ألف ثري سعودي فقط، يملكون أكثر من 800 مليار ريال، وهذا قبل سنوات فكيف الحال الآن. من الواضح حجم الفجوة بين اقتصاد المملكة وبين ثروة هؤلاء الألف شخص، وإذا كنا بلدا غير صناعي والثروة النفطية في يد الدولة تماما فإن هذه الثروة الضخمة نتجت بلا شك من عامل واحد فقط وهو العقار، فهي ثروة معطلة غير منتجة، لهذا نسمع عن أزمات السكن والبطالة ولن تنتهي، وضعف سوق المال ولن يعالج، وانغلاق المجالات الاستثمارية أمام الجيل الشاب، ولا أمل، وستستمر الحال هكذا طالما هناك من بيننا من يريد أن يصنع ثروة شخصية على حساب ثروة الأمة. فتحرير الأراضي البيضاء ليست مشكلة إسكان فقط ويجب عدم تحجيمها هكذا بل ثروة أمه بأسرها وأمنها الاقتصادي والاجتماعي، فكيف تنشأ ثروة للأمة ويعم خيرها على الأجيال ما لم تتحرر عناصر الإنتاج كلها ومنها الأراضي البيضاء وتصبح متاحة للمشاركة في العمل والإنتاج. لهذا فإن قرارا لفرض الرسوم على الأراضي البيضاء قرار وطني في المقام الأول، ويجب دعمه من الجميع، قرار لمعالجة أصحاب الثروات العقارية أنفسهم قبل الآخرين، قرار من باب قوله صلى الله عليه وسلم ، "وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".