عكاظ - السعودية أتخوف كثيرا على مستقبلنا المعرفي والثقافي حين أقرأ، وكثيرا ما أقرأ، عما تقوم به الجامعات من إعادة هيكلة كلياتها وأقسامها كي تتواءم مخرجاتها من حاجة سوق العمل، وأتساءل عما هو أولى بإعادة الهيكلة، هل هي الجامعات وريثة تاريخ الإنسانية في العلوم والمعارف والمؤتمنة على ما ورثته من تطور وتشعب الفكر الإنساني قديما وحديثا، أم الأولى إعادة النظر في سوق العمل، وهو سوق حديث النشأة ملتبس الظروف مفاجئ التغييرات، كي يكون قادرا على استيعاب كافة الخريجين من مختلف العلوم والمعارف؟ وحين يتم إخضاع الجامعات وكلياتها وتخصصاتها لسوق العمل، فيتم إغلاق بعض التخصصات أو التوقف عن استيعاب الملتحقين ببعض الكليات، فإن محصلة ذلك أن تفقد الجامعات دورها الاستشرافي في تلمس حاجات المجتمع ودعم مختلف جوانب المعرفة، بل تفقد دورها الريادي في تصحيح سوق العمل وتنبيه المجتمع إلى أن ثمة خللا فيه دفع به إلى السير بطريقة عرجاء جعلته عاجزا عن استيعاب تخصصات لا ينبغي له أن يعجز عن استيعابها. ومحصلة ما يمكن أن تنتهي إليه الجامعات في حال استمرار خضوعها لشروط سوق العمل بوضعه الراهن أن تصبح مجرد مكاتب ملحقة بشؤون الموظفين وإدارات القوى البشرية للشركات والمؤسسات الكبرى، وأن يتم اختصار عملها في عقد ما يكاد يكون دورات تدريبية طويلة المدى لإعداد الموظفين الذين يوفر لهم سوق العمل وظائفهم، وحسب الجامعات بؤسا إن انتهت إلى هذا الأمر واكتفت بهذه الوظيفة. ثمة دول سبقتنا بمئات السنين في التعليم الجامعي، كما سبقتنا مئات السنين في نشأة أسواق العمل لديها، لم تراجع هيكلتها ولم تغلق كلياتها ولم تقلص القبول في بعض تخصصاتها، وإذا ما أردنا مثالا على ذلك، فلنا أن نشير إلى جامعة إينالكو (معهد دراسة الحضارات واللغات الشرقية بباريس)، والذي يعين أستاذا مختصا في اللهجة اليمنية، ويخرج طلابا يحملون شهادة الدكتوراة في هذه اللهجة دون أن يرتاب في أن هؤلاء الخريجين سيجدون عملا ما دام سوق العمل سليما، ولن يعانوا من البطالة التي لا يمكن أن تعاني منها شعوب تثمن كافة جوانب المعرفة، ولعلنا جميعا نعرف أن اليابان، وهي البلد الذي يمكن أن يكون عنوانا لسوق العمل القائم على الصناعة، لا تزال جامعاته تحتفي بأقسام العلوم النظرية التي تشهد إقبالا متزايدا عليها ولا يجد الملتحقون بها عناء في الحصول على وظائف عند تخرجهم. نحن بحاجة إلى تصحيح سوق العمل كي يستوعب الخريجين من كافة التخصصات، كما أن علينا أن ننقذ الجامعات من براثن سوق العمل كي لا تستمر تنميتنا في السير بطريقة عرجاء سوف تضع الأجيال القادمة أمام معضلة يصعب عليهم حلها. [email protected]