الرياض - السعودية أتذكر جيداً جارتنا تلك السيدة الفاضلة التي كانت تؤنس وحشتنا في غياب الرجل، كنت صغيراً في ذلك الوقت وكنت أراقبها وهي تأخذ الماء للوضوء ثم تذهب إلى أقرب نخلة في المزرعة وتتأكد أن كل قطرة تغتسل بها تذهب إلى حوض النخلة حتى صرنا نسمي تلك النخلة باسمها، كانت تداعبنا بالقول إن لها حقاً في منتج تلك النخلة. هذه الثقافة لم تعد موجودة بين الأبناء والبنات وحل محلها التبذير في كل شيء ومنها الهدر الكبير للمياه والطاقة والغذاء من قبل الأبناء والخدم والسائقين. تذكرت ذلك وأنا أرى الهدر الكبير وغير المبرر حين زرت مزرعة في الشمال بها رشاشات محورية أجّرت لعمالة وافدة تزرع الأعلاف على مدار العام، ورغم أن الدولة منعت زراعة القمح الذي لا يستهلك سوى كمية قليلة مما تستهلكه الأعلاف، إلا أنها سمحت بزراعة الأعلاف التي تستهلك كميات هائلة من المياه على مدار العام وتستنزف الكثير من الطاقة، وقبل أيام صرّح وزير المياه أن ما يستهلك في الزراعة من مياه مدة خمسة عشر عاماً يعادل الاستخدام المنزلي مدة ألف سنة. هذه المياه تكونت عبر ملايين السنين وهي غير متجددة، وفي البسيطا في الجوف على سبيل المثال يستنزف من المياه لزراعة الأعلاف ما يكفي مدينة كالرياض مئات السنين حيث تنتشر آلاف الرشاشات المحورية التي لا يستفيد منها سوى المزارع الكبير والعمالة الوافدة، وتستنزف المياه أغلى مكونات الحياة في بلد صحراوي شحيح الأمطار وليس به أنهار، هذه التجمعات الكبيرة من المياه يجب أن تبقى مخزونا استراتيجيا يزود مدن المملكة بالمياه في حال نقص مياه التحلية التي تكلف الكثير من المال والوقود. فالماء هو الحياة، والمملكة ليست بلدا زراعيا تستطيع معه زراعة مساحات شاسعة بالأعلاف، وحتى الخضار يجب أن نستخدم في زراعتها الوسائل الحديثة للري كالبيوت المحمية التي توفر المياه وتقاوم قساوة المناخ الصحراوي الجاف، وحين ننظر إلى ما تصرفه الدولة من إعانات ومساعدة للمعدات ودعم كبير للكهرباء، نجد أنه بلا مردود على الاقتصاد، لذا على الجهات المختصة كوزارة المياه ووزارة الزراعة وصندوق التنمية الزراعية أن تبحث عن البدائل الاقتصادية التي تعوض المزارع عن ضرر إيقاف زراعة الأعلاف ثم الرفع للمقام السامي بالحلول التي يكون الكل فيها فائزا، حتى لا نقع في سلسلة أخطاء مكلفة أو بها ضرر للمزارع وأصحاب المشاريع الكبيرة، وحين ننظر إلى المستهلك لتلك الأعلاف نجد أنها إما مشاريع كبيرة يجب أن تستورد أعلافها من الخارج كما أعلنت عنه شركة المراعي قبل أيام، أو أنها لمربي الماشية وهؤلاء يجب البحث لهم عن مهن أفضل، فهذه الماشية خسارة على صاحبها وعلى البيئة وعلى الاقتصاد وتديرها عمالة تعيش في بؤس وظروف غير إنسانية. العنصر الثاني الذي نهدره ويزداد الهدر يوماً بعد يوم هو الوقود الذي يباع أرخص من الماء وبفارق كبير عن الدول المجاورة ما أوجد سوقاً رائجة لتهريبه وسوء استخدامه، تذكرت ذلك حين أخبرني أحد الأصدقاء كيف ذهب مع ثلاثة من إخوته لمناسبة خارج الرياض كل في سيارته لمسافة تزيد على الخمسمئة كيلو متر ذهاباً وإياباً رغم أنهم ذهبوا وعادوا في نفس اليوم وفي أوقات متقاربة، ذلك أن توفير الوقود وحماية البيئة وسلامة الأرواح ليست في ثقافتنا ولا من أولوياتنا، ومن أهم أسباب ذلك التكلفة البسيطة لملء خزان السيارة بالوقود، المملكة تستهلك من الوقود أكثر مما تستهلكه دولة صناعية كبيرة مثل فرنسا أو بريطانيا مع زيادة سنوية تتراوح بين 7 إلى 9% ما يعني تضاعف الاستهلاك كل ثماني سنوات. لذا أرى أنه قد حان الوقت لاتخاذ إجراءات علمية مدروسة توقف الهدر لسلعتين من أهم السلع وأغلاها وأهمها بالنسبة للأجيال القادمة، هدر الوقود سواء للنقل أو الكهرباء يجب أن يحدّ منه بدراسة البدائل بحيث يقتصر الدعم على الطبقة التي هي بحاجة له، ثم يحول كل وفر من رفع أسعار الوقود إلى برامج مساندة تزيد اقتصادنا قوة وترفع من مستوى الطبقات الأقل دخلاً ليصلوا إلى مستوى الكفاية الذي حدد بحوالي تسعة آلاف ريال للأسرة المكونة من خمسة أفراد، ودعم برامج التوظيف والسكن والتأمين الطبي وتحسين مستوى المدارس لعموم المواطنين، وزيادة دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهذا يعني حزمة من الإصلاحات الاقتصادية التي تراعي حق الأجيال القادمة في هذه السلعة الثمينة مع مراعاة الأسر الأقل دخلاً بحيث تتحسن ظروفهم ولا يتأثرون بالزيادة. الوزارات المعنية ومجلس الاقتصاد الأعلى مطالبون بوضع حلول علمية عاجلة لحفظ ثروات المملكة وإيقاف هدرها واستهلاكها بوسائل غير اقتصادية، فأعظم خزن استراتيجي هو إبقاؤها في باطن الأرض، وآمن صناديق الاستثمار هو حفظها مادة خام في مكامنها الآمنة، الماء والبترول هما أغلى سلعتين يحتاجهما العالم، وغير مقبول أن نستهلك في أربعين عاما ما تكوّن خلال ملايين السنين، ولا نبقي للأجيال القادمة سوى عبء زيادة عدد السكان وتكلفة صيانة المشاريع القائمة، والبحث المكلف عن مصادر جديدة للطاقة.