الرئيس الأوكراني يصل جدة وفي استقباله نائب أمير مكة    أمير الكويت يأمر بمحاسبة المسؤولين عن حريق المنقف    النفط يصعد والذهب يهبط    2300 موظف لرقابة الأسواق والمسالخ بالرياض    آل ثاني: ملتزمون بجسر الهوة والتقريب بين الفرقاء.. بلينكن: «حماس» رفضت المقترحات    100 مليون يورو تنقل روديغر إلى النصر    قرارات ضد 26 شخصا نقلوا 102 مخالف لا يملكون تصريح حج    شيماء الشريف.. وإنجاز للمثقفة السعودية    إطلاق خدمة الإسعاف الجوي لخدمة ضيوف الرحمن    تركيب منظم لضربات القلب ينقذ حياة حاج روسي    45 كشافًا من تعليم جازان يشاركون في خدمة ضيوف الرحمن    1082 جامعًا ومصلىً لإقامة صلاة عيد الأضحى المبارك    رئيس الاتحاد الآسيوي: التصفيات الآسيوية أظهرت انحسار الفجوة الفنية بالقارة    صحة الشرقية تنظم فعالية حج بصحة بالشراكة مع مطارات الدمام    الرئيس الفرنسي يطالب الأحزاب الديمقراطية بالتحالف معه قبل الانتخابات    نصائح الحج بلغة الإشارة للصم وضعاف السمع    لليوم السادس "الشؤون الإسلامية" تستقبل 1299 حاجا وحاجة من 83 دولة    معرض Saudi Warehousing & Logistics Expoيعزز سوق الخدمات اللوجستية البالغة قيمته 15 مليار دولار    هيئة الأدب والنشر والترجمة تختتم النسخة الثالثة من مبادرة «الشريك الأدبي»    جوالة جامعة جازان تشارك في معسكرات الخدمة العامة بموسم حج هذا العام    ارتفاع أعداد الجامعات السعودية إلى 32 جامعة في تصنيف التايمز للجامعات ذات التأثير في أهداف الأمم المتحدة    مركز 911 تلقى أكثر من مليون مكالمة في الحج الفائت    القيادة تهنئ رئيس جمهورية الفلبين بذكرى استقلال بلاده    أكثر من 35 وفاة بحريق بمبنى جنوب الكويت    بدء التسجيل العقاري في 8 أحياء شرق الرياض ابتداءً من 17 ذي الحجة    وزير الاتصالات وتقنية المعلومات ومحافظ هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية يتفقدان استعدادات"توال" لموسم حج 1445    «إي اف جي هيرميس» تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح المسوّق لشركة «أرامكو»    وزير النقل يُدشِّن تجربة التاكسي الجوي ذاتي القيادة لأول مرة في موسم الحج    الواجب تِجاه المُبدعين فِكرياً وأدبياً وعِلمياً    الصحة تنقل 18 حاجًا عبر 31 عربة إسعافية من المدينة إلى المشاعر المقدسة    استشهاد 14 فلسطينياً في قصف للاحتلال على منازل بمدينة غزة    فرصة لهطول الأمطار على مرتفعات مكة والجنوب وطقس شديد الحرارة بالرياض والشرقية    زلزال بقوة 4.8 درجات يضرب بلدة بوان غرب كوريا الجنوبية    السعودية واحة فريدة للأمن والأمان (2 2)    وزير الداخلية يتفقد المشاريع التطويرية ومركز تحكم الدفاع المدني بالمشاعر    اتفاقية بين «المظالم» و«مدن» للربط الرقمي    وفد شوري يزور «مَلكية الجبيل» ورأس الخير    تابع سير العمل في مركز قيادة الدفاع المدني.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد مشاريع التطوير في المشاعر المقدسة    أبناء الطائف ل«عكاظ»: «عروس المصايف» مؤهلة لاستضافة مونديال 2034    اللجنة التفقدية تقف على ملاعب التدريب ل «خليجي 26»    خالد وهنادي يردان على تنبؤات ليلى حول طلاقهما ب«آية قرآنية»    150 وسيلة و 1500 إعلامي محلي ودولي في «ملتقى الحج»    سفراء "موهبة" يحصدون الجوائز    قرعة الدور 32 لكأس الملك.. الليلة    وزير الإعلام يزور جناح" سدايا"    شكراً..على أي حال    العدو الصهيوني    حج بلا أدلجة أو تسييس!    الأفيال الأفريقية تنادي بعضها بأسماء فريدة    10 نصائح من استشارية للحوامل في الحج    تحذير طبي للمسافرين: الحمّى الصفراء تصيبكم بفايروس معدٍ    «التهاب السحايا» يُسقط ملكة جمال إنجلترا    منتجات فريدة للإبل تجذب أنظار زوار المعرض السعودي للسنة الدولية للإبليات 2024 في إيطاليا    الموافقة على أفتتاح جمعية خيرية للكبد بجازان    "الأمر بالمعروف" تشارك في حج هذا العام بمنصات توعوية متنقلة لخدمة الحجاج    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على منيرة بنت محمد بن تركي    «الآسيوي» يشيد بتنظيم «مونديال» البلياردو في جدة    شركة مطارات الدمام تعقد ورشة عمل لتدشين 'خدمتكم شرف'    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى أبو بخيِّت

عام 1982 استيقظتُ صباح أحد أيام العطلة الدراسية، وكعادتي اتجهت لبيت خالتي التي لم تكن تبعد إلا خطوات من منزلنا. لم يكن الباب مغلقاً، وحينما دخلت وجدت البيت خالياً فاجتزت الفناء ولمحت هدماً ورأيت أجزاء من سقف وسط البيت الطيني ( القبة) منهاراً. كان السكون يلف المكان إلا من هديل الحمام في أقفاصه، وخوار البقرة في مراحها، وبقايا من رماد وحثال شاي الليل وبن الدلال. غشيني الرعب، فأطلقت ساقيّ للريح، ووجدت الخبر عند أمي، لقد ارتحلوا قبل الفجر إلى منزلهم الجديد شمال بريدة بعد أن تداركوا أنفسهم حين سمعت إحدى البنات صوت التصدع في السقف. ولتخفيف لوعتي سمحت لي أمي بأن أبقى عندهم ثلاثة أيام.
طوال السنوات الثلاث التي تلت انتقال أبناء خالتي إلى بيتهم الجديد، كان ذلك السور الأبيض الطويل الذي يقبع وسط الحي مثار أسئلة هامسة بيننا نحن الغلمان، كنا نتقصد أحياناً أن نمر أمام البوابة عسى أن نلمح شيئاً يرضي فضولنا، أكثر من ذلك الهوائي ذي الشكل الغريب الذي يعلو إحدى العمارتين اللتين يحتضنهما السور، وغير رجال الأمن الذين يحرسونه والمدنيين الذين يعج بهم المكان.
قيل لنا إن ذلك الهوائي يلتقط كل مايتفوه به الناس من مسافة كيلومتر من جميع الجهات، فضلاً عن الاتصالات الهاتفية التي تقع في محيطه. ولأن بيت خالتي لم يكن يبعد إلا مئتي متر تقريباً، فقد كنا نحاذر الحديث عن السور وسكانه إلا تلميحاً، كنا نختار الطريقة التي يعمد إليها الكبار عند التعمية والحديث عن طفل حاضر مدرك، أو إنسان يصعب عليه التقاط الشيفرة، فكنا نتحدث بحذر عن (خلق الله).
وفي 12 أغسطس 1987كنت نزيل إحدى غرف هذا المبنى للمرة الأولى.
في ربيع 1998، كنت أقضي آخر أيام توقيفي للمرة السادسة داخل السور الأبيض، وقد أهداني صديق كتاب ( بجعات برية) لمؤلفة صينية تحكي فيه قصة ثلاثة أجيال من الصينيات، منذ عشرينيات القرن العشرين حتى وفاة ماوتسي تونج ثم عصر الانفتاح مع حكيم الصين دينج شياو بينج. ولما احتواه هذا الكتاب من قصص شجية، ومواقف مؤثرة، فقد كنت ليالي صحبتي لهذا الكتاب آوي إلى مهجعي غارقاً بدموعي.
تلك الأيام كانت آخر أيام توقيفي الذي أعقب تفجيرات العليا في نوفمبر 1995. كان العنبر قد خلا من النزلاء، وبعد شهور خمسة كانت مليئة بالأحداث والحركة، والضيوف العابرين الذي غصت بهم الغرف، جاء اليوم الذي واجهت فيه جدران العنبر وحيداً. وجدتْ إدارة السجن خلو العنبر فرصة للقيام بأعمال إصلاحات نقلت بعدها إلى غرفة بجوار مكاتب الإدارة حتى أطلق سراحي.
كنت قد ألفت تلك الغرف التي مررتُ بها جميعها طوال اثني عشر عاماً في زياراتي المتكررة منذ سن السابعة عشرة حتى التاسعة والعشرين.
كان هذا العنبر بغرفه الأربع قد استضاف مجموعة من بقايا سجناء الإخوان أهل الحديث عقب احتلال الحرم، ومن 1982 حتى أبريل 1991 كان أحد نزلائه الأكثر إثارة ومتعة ونبالة هو أبو بخيِّت . كنت قد رفضت مصافحته عند أول لقاء لي به، لأنه كان حليقاً، ولكنه تجاهل الأمر، وكان لسنه وخبرته في الحياة عامل كبير في إلفة نمت بيننا. في المرة الأولى لم أبق إلا ليلة واحدة، وفي زيارتي الثانية اجتاز بي مساءً وأنا أصرخ لكي يخفض صوت الموسيقى، فنظر إليّ خلسة ثم مضى وتركني، وبعد ثوان رفع صوت التليفزيون، فازداد صراخي حتى أصبح نباحاً، ثم كلّت حنجرتي، وشيئاً فشيئاً أصبت بالصمم والدوار فاستسلمت وفوضت أمري إلى الله.
بعد أن انطويت على نفسي وقنعت بالسكون جاءني الحارس ليخبرني أن جاري يبلغني السلام وأنه سوف يقوم بالحديث معي إذا انتهى المسلسل، وبعد دقائق أطل أبوبخيت من خلف القضبان وقال لي: إنني أعرف أنك تحب الصدع بالحق، وحتى أنا انزعجت لأن صوتك تأذى، ولكنك يابني عابر وأنا باقٍ، وأنت مراهق وأنا كهل، وأنت متدين ولكنك غر وأحمق، وأنا مسلم ومؤمن لا أترك الصلاة ولا قراءة القرآن، وأنا لست عالم دين، ولكني أعلم أن الاختلاف هو سنة الخالق وسر جمال هذا الوجود.وقد كان أبي متديناً وعمي كان إمام مسجد، عرفت الشيوعيين والقوميين وجلست مع آية الله الخميني وأكلت معه الزيتون، وعرفت متصوفة تركيا. لن نتفق يابني، فالأفضل أن نكون جيراناً طيبين نهوِّن مصابنا على بعضنا حتى تنفرج. بعدها بعام التقيت به للمرة الثالثة، هذه المرة كانت غرفتي قبالته، ألقى نظرة ورمى بالتحية، وقال: مع الصباح ستتضح الحال. كنتُ في المرتين السابقتين لا أبقى إلا ليلة واحدة ثم يجري نقلي إلى الرياض، وبعد الظهر ألقى التحية ثانية وقدم كأس حليب ساخن وقال: يبدو أنك ستبقى. لحسن حظك فجارك في الزنزانة الأولى مشعوذ قبضوا عليه منذ أسبوع، ولكنه بعيد عنك. وليس لك إلا أنا، فأحسن صحبتي، وأنصحك بحسن الأدب.
قضيت سبعة وأربعين يوماً مجاوراً لهذا الإنسان الذي لايمكنني وصفه إلا بأنه كان شخصاً نادراً ونسيج وحده. كان يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن، وكان في مراهقته، قد أمسك بخطيب جامعهم في السالمية جنوب بريدة، وسحبه من ياقته وأنزله من المنبر، لأن الخطيب لم يقتف سنة القرآن فيذكر نعيم الجنة مقابل مصير أهل الكفر. قال: لقد أحرقنا الخطيب بجهنم وعقاربها، ونسي أن يذكر الجنة، وانتظرتُه طوال الخطبة وحين قارب الانتهاء ورأيت أنه غدر بنا، استعنتُ بالله وأنلته جزاءه، ويومها تلقيت من أبي وعمي وشيبان الجماعة من الصفعات مالم أعرف له مثيلاً في حياتي. لقد كانت فضيحة.
وفي تلك الأيام التي جاورتُ فيها أبو بخيت انهار سور برلين، وأفرج عن نيلسون منديللا، وكان يسرِّب إلي الجرائد وأنا أتظاهر بعدم رغبتي في قراءتها تأثُّماً. أذكر أنه أخذ ساعة يتحدث عن مانديللا بإعجاب كبير، وحين بلغت به العاطفة ذروتها قال: إذا قُدر لي أن ألتقي بمانديللا فسوف أقبل رأسه قلت له: أعوذ بالله،
صادفته بعدها بعام واحد في محل للخضار، ثم تتبعت مقر إقامته بعد انتقاله إلى الرياض بعد الإفراج عني عام 1998، كنت شغوفاً بأن أحكي له بعضاً من أفكاري الجديدة. دقيقتان من التأخر حالتا بيني وبين لقائه فقد خرج من المسجد قبل أن ألحق به. توفي أبو بخيت قبل سنوات وهو في الستين من عمره، ولم يقدر لهذا الإنسان الفريد أن يكتب قصته التي لم أذكر من عجائبها إلا ماتسمح به مساحة المقال ويمكن نشره.
ذلك الغريب الذي أنشدنا يوماً بصوته العميق الجهوري، وسحنته الشامخة النبيلة، في سكون الليل ومع خفوت الأضواء، واللواعج تعصف بالنفوس الكلمى:
يقول ابو بخيِّت طُواه الياس.... طيَّ البحاحير لشروعي
غبر الليالي سِقَنِّهْ كاس.... هم وغرابيل وفجوعي
في وسط سجن به يشيب الراس... حتى الهوا فيه ممنوعي
وياعل رجلٍ بليا احساس....تبكيه من حطت اردوعي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.