عبدالله بن ثاني - الجزيرة السعودية تبرز أهمية الفتوى في الأمة الإسلامية، لأنها إخبار بحكم الله عن الوقائع بدليل شرعي حتى شبّه القرافي المفتي بالمترجم عن الله من جهة إخباره الناس بالأحكام الشرعية، أما ابن القيم فوصف المفتي بالموقع عن الله، ويرى الشاطبي في الموافقات أنّ المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم من حيث وراثته للعلم الشرعي. وما نراه من جرأة وسباق محموم على برامج الفتوى في الفضائيات ووسائل الإعلام بطريقة مخيفة من بعض طلبة العلم، ومن أحداث يبحثون عن جماهيرية وضوء، نتيجة طرح فتاوى مثيرة يحتاج إلى ضبط، وبخاصة أنّ أولئك الأحداث ينقصهم الاجتهاد وشروطه، والفتوى وتقدير مصالحها ومفاسدها حتى أصبحنا فيما يسمّى «فوضى الإفتاء» ... يفتي أحدهم اليوم ثم يتراجع غداً في مسائل لو اجتمع لها أهل بدر لتدافعوها فيما بينهم.. قال أبو حصين الأسدي فيما نقله المباركفوري في تحفة الأحوذي: «إنّ أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر». ولاشك أنّ مزاحمة العلماء الربانيين المؤهّلين للفتوى دون غيرهم نذير خطر، وبخاصة في ظل حراك عالمي وإقليمي وداخلي وواقع معقّد ومتشابك، لا يستوعب أبعاده أولئك الأحداث ذوو التجارب القليلة، الذين لا يستطيعون ربط الفتوى المعاصرة بتنمية قدرات الأمة للرقي بالمجتمع المسلم إلى أعلى المستويات الحضارية، بعيداً عن فرض الوصاية عليه بحجة عدم الثقة في دينه وسلوكياته... وقد ورد في أدب المفتي والمستفتي: «عن مالك بن أنس قال أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي فقال له ما يبكيك؟ فقال له أمصيبة دخلت عليك؟ فقال لا ولكن استُفْتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال ربيعة ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق». وقد أثر عن الإمام مالك فيما نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أنني أهل لذلك». وانطلاقاً من هذه المهمة العظيمة كان السلف يتدافعون الفتيا وربما هي أقل أهمية مما يتسابق عليه المفتون الأحداث المعاصرون، فعبد الرحمن بن أبي ليلى أدرك كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما منهم من أحد يحدث بحديث إلاّ ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتي عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا»، قال إسحاق بن هاني: سألت أبا عبد الله (يعني: أحمد بن حنبل) عن الذي جاء في الحديث «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» فقال: يُفْتِي بما لم يسمع... وجاءه رجل يسأله عن شيء فقال: لا أجيبك في شيء، ثم قال: قال عبد الله بن مسعود: إن كل مَن يُفتي الناس في كل ما يَستفتونه لمجنون! قال الأعمش: فَذَكَرْتُ ذلك للحاكم، فقال: لو حَدَّثْتَنِي به قبل اليوم ما أفتيت في كثير مما كنت أُفْتِي به! وقال الشافعي: «ما رأيت أحداً جمع الله تعالى فيه آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، أسكت منه على الفتيا»، وقال أبو حنيفة: «لولا الخوف من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر». وعقد ابن القيم فَصْلا في تَوَرّع السلف عن الفتيا: قال فيه: «وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرّع في الفتوى، ويودّ كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تَعَيَّنَتْ عليه بذل اجتهاده في معرفة حُكْمها من الكتاب والسنّة، أو قول الخلفاء الراشدين، ثم أَفْتَى». ولو نظرنا في الشروط التي كان السلف يحرصون على توافرها في المفتي، لعرفنا أنّ جرأة المفتين الأحداث المعاصرين على فتح هذا الباب فوضى تحتاج إلى ضبط ومسألة تحتاج إلى تحرير، ولم يكن هناك أخطر من فتوى هؤلاء الأحداث وغير المؤهلين في مسائل عامة ونوازل كبرى ومشروعات أمة تحتاج إلى هيئات علمية مستقلة، قال الشافعي فيما نقله عنه البغدادي في الفقيه والمتفقه: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه وبمحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به وفيما أنزل ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر ربما يحتاج إليه للعلم والقرآن ويستعمل مع هذا الأنصاف وقلة الكلام ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي».... ولابد من فهم للواقع وتنزيل للنصوص الشرعية على واقعها دون ليّ لعنقها من أجل الدفاع عن وجهة نظر أو مسألة خلافية معتبرة دون حماس، لأنّ جمود المفتي والقاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس، يلزم منه تضييع حقوق كثيرة وظلم خلق كثيرين، كما قال ابن عابدين في مجموعة رسائله، وكذلك لابد من إدراكه المقاصد الشرعية والمآلات في جلب المصالح ودرء المفاسد وتمييز حد الضرورة مما لا يبلغه، فقد أخرج البخاري في صحيحه - باب فضل مكة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عندما حثه بعض من حوله على بناء الكعبة على قواعد إبراهيم: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت هذا» وإن هذا الحديث يدل دلالة واضحة على رعاية المصلحة التي لم يقدرها من أفتى بهدم المسجد الحرام، ومن أفتى بقتل من يخالف في بعض المسائل بتأويل سائغ ودليل معتبر، بحجة أنه استحلها ليمتطي مسلكاً يشبه مسلك الخوارج الذين يكفرون بالمعصية بحجة الاستحلال مما يحتم تدخل ولي الأمر رسمياً لضبط الفتوى وعدم مزاحمة سماحة مفتي الديار وهيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الأعلى من قِبل الأحداث وبعض طلبة العلم، الذين يجرؤون على الفتوى في النوازل والفتن والملاحم، دون مراعاة لمقتضيات الواقع، وبخاصة أن الفتيا والقضاء والإمامة من أعمال السلطان في الشرع الإسلامي، وقد دعا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى المحاسبة والإشراف على جهاز الإفتاء فيما نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين فقال: «قال لي بعض هؤلاء أجعلت محتسباً على الفتوى، فقلت له: يكون على الجزارين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب».