السعودية تحقق المركز ال16 عالميًا في تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية 2024    تعرف على درجات الحرارة في مكة والمشاعر المقدسة    "الداخلية" تستضيف أسر الشهداء والمصابين لأداء مناسك حج هذا العام 1445ه    سعود بن مشعل يستقبل مدير عام المجاهدين    بحضور تركي آل الشيخ.. نجوم "ولاد رزق 3" يُدشنون العرض الأول للفيلم في السعودية    العنقري يُشارك في اجتماع مجموعة المشاركة للأجهزة العليا للرقابة المالية لمجموعة العشرين في بيليم بالبرازيل    مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    هذا سبب ارتفاع أقساط السيارات في الوقت الحالي    ليان العنزي: نفذت وصية والدي في خدمة ضيوف الرحمن    قائد أحب شعبه فأحبوه    الرئيس المصري يغادر بعد أداء الحج    في 2025.. ستصبح الشوكولاتة باهظة الثمن !    صادرات النفط السعودية تتراجع إلى 6 ملايين برميل    800 مليار دولار قروض عقارية في الربع الأول    مصادر «عكاظ»: أندية تنتظر مصير عسيري مع الأهلي    مصدر ل«عكاظ»: أبها يرغب في تمديد إعارة الصحفي من العميد    «بيلينغهام» ثالث أصغر هداف إنجليزي    المملكة.. تهانٍ ممزوجة بالنجاحات    48 درجة حرارة مشعر منى.. لهيب الحر برّدته رحمة السماء    جدة: منع تهريب 466 ذبيحة فاسدة    «ترجمان» فوري ل140 لغة عالمية في النيابة العامة    رسالة لم تقرأ..!    نجاح مدهش اسمه «إعلام الحج»    بعوضة في 13 دولة تهدد إجازتك الصيفية !    نظرية الحج الإدارية وحقوق الملكية الفكرية    فخر السعودية    وفود وبعثات الحج: المملكة تقود الحج باقتدار وتميز وعطاء    بديل لحقن مرضى السكري.. قطرات فموية فعّالة    5 مثبطات طبيعية للشهية وآمنة    فخ الوحدة ينافس الأمراض الخطيرة .. هل يقود إلى الموت؟    فرنسا تهزم النمسا في بطولة أوروبا    أمطار الرحمة تهطل على مكة والمشاعر    منهج مُتوارث    مدرب رومانيا: عشت لحظات صعبة    الاتحاد الأوروبي يفتح تحقيقاً ضد صربيا    يورو 2024 .. فرنسا تهزم النمسا بهدف ومبابي يخرج مصاباً    القبض على إثيوبي في عسير لتهريبه (34) كيلوجراماً من مادة الحشيش المخدر    رئيس مركز الشقيري يتقدم المصلين لأداء صلاة العيد    وزارة الداخلية تختتم المشاركة في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى إعلام الحج    السجن والغرامة والترحيل ل6 مخالفين لأنظمة الحج    ولي العهد: نجدد دعوتنا للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة    وزير الصحة يؤكد للحجيج أهمية الوقاية بتجنّب وقت الذروة عند الخروج لأداء ما تبقى من المناسك    د. زينب الخضيري: الشريك الأدبي فكرة أنسنت الثقافة    تصادم قطارين في الهند وسفينتين في بحر الصين    «الهدنة التكتيكية» أكذوبة إسرائيلية    2100 رأس نووي في حالة تأهب قصوى    القبض على إثيوبي في الباحة لترويجه مادة الإمفيتامين المخدر    الرئيس الأمريكي يهنئ المسلمين بعيد الأضحى    نائب أمير مكة المكرمة يطلع على خطط أيام التشريق    فيلم "ولاد رزق 3" يحطم الأرقام القياسية في السينما المصرية بأكثر من 18 مليون جنيه في يوم واحد    عروض الدرعية تجذب الزوار بالعيد    51.8 درجة حرارة المنطقة المركزية بالمسجد الحرام    "الصحة" للحجاج: تجنبوا الجمرات حتى ال4 عصراً    عيد الأضحى بمخيمات ضيوف الملك ملتقى للثقافات والأعراق والألوان الدولية    موسكو تحذّر كييف من رفض مقترحات السلام    كاليفورنيا ..حرائق تلتهم الغابات وتتسبب بعمليات إجلاء    الاحتلال الإسرائيلي يحرق صالة المسافرين بمعبر رفح البري    قتل تمساح ابتلع امرأة !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جناحان لا نهوض لأي مجتمع إلا بهما معاً
نشر في أنباؤكم يوم 06 - 09 - 2009

يتحكم قانون القصور الذاتي بالمجتمعات التقليدية تحكماً مطلقاً فيستبقيها تدور في مكانها، ولكنها تنخدع بهذه الحركة الدائرية، فتتوهم أنها تسير نحو الأمام وتجهل أنها تتحرك تحركا دائرياً وليس تحركا صاعداً، بل إن حركتها في الأغلب تكون نحو الخلف، فينحدر المجتمع المتخلف بهذه الحركة بدلاً من أن يصعد؛ لأن خوفه من التغيير يدفعه إلى المزيد من الإنكماش، وإلى مضاعفة الاستعداد للمحافظة على الاستمرار، إضافة إلى أن الانحدار يكون تلقائياً، أما الصعود فيتطلب جهداً استثنائياً، ويضاف إلى كل هذه العوامل التي تضغط المجتمع نحو الخلف فإن كل شيء نموه من جنسه، فالتخلف لا ينتج سوى المزيد من القيود والإجراءات والحواجز والمتاريس والتحفظات وتعميق الكوابح النفسية والذهنية والوجدانية، فالحركة ذاتها ليست دليلاً على نجاعة الفعل، ولا على فاعلية الجهد؛ لأن التحرر من تحكم قانون القصور الذاتي والإفلات من قبضة التخلف يتطلب فهماً لطبيعة هذا القانون، وإدراكا لقوة هذه القبضة، وزوال الخوف من التغيير ورغبة صادقة في التحرر والانتقال إلى مستوى أرفع وبذل جهود استثنائية قوية لتكوين قوة حاملة كافية أقوى من قوة الجذب لكي يتحقق النهوض، فالدوران في ذات المكان، والبقاء على نفس الأوضاع، والنفور التلقائي من التغيير، كلها ذات وجود أصيل وعميق وقوي، أما تجاوز هذا الأصل المستحكم والقابض والمتربص فلا يتحقق إلا بطاقة استثنائية قوية، تتغلب على قانون القصور الذاتي وتفك أسر المجتمع، وتفتح له الآفاق، وترخى قبضة المألوف، وتمنحه القدرة على تجاوز ذاته، والإفلات من الجاذبية القوية الآسرة...
لقد أثبتت مسيرة التاريخ وشواهد التنمية في الشرق والغرب - بما لايدع مجالاً للشك - أن المجتمعات التي مازالت منغلقة على ثقافاتها القديمة لا تستطيع تجاوز واقعها الكليل وتتعايش مع الوضع العالمي الذي يجيش بالحركة والفاعلية والإنتاج والسباق إلا إذا هي غيرت من ذاتها، وأن هذا التغيير يتطلب أن تطرأ للمجتمع قدمان ينهض عليهما، ويتحرك بهما نحو وضعه الجديد المزدهر: هما قدم الريادة الفكرية التنويرية، وقدم الاستجابة الاجتماعية العامة الكافية، وبذلك تخرج من خطوط الدوران إلى آفاق الصعود، ويتخلص من القيود التي تكبله، وينتقل إلى مستوى الفاعلية المنتجة، إن الإفلات من قبضة التخلف لابد له من جناحين يحلق بهما المجتمع وينطلق مرفرفاً لإعادة بناء ذاته بناء جديداً، يتلاءم مع متطلبات الواقع الإنساني المتغير، إن القدرة على التلاؤم مع جيشان وتتابع التغيرات النوعية الهائلة، التي طرأت على الحضارة الإنسانية، وما تزخر به من الأكفار والنظم والعلوم والمعارف والمهارات والمبتكرات والتزاحم على الموارد والأسواق، والسباق المذهل في كل المجالات، لم تعد ممكنه تلقائيا وإنما لابد من الإحساس الشديد بالحاجة إليها، والاحتشاد القوي لبنائها، والإدراك العميق لمتطلباتها، والتعود المتجدد على المرونة الكافية لتعديل التصاميم اللازمة لها كلما تطلب الأمر ذلك..
إن الحضارة الحالية بتغيراتها النوعية العظيمة لا تنفع فيها الأساليب العتيقة الموروثة فالثقافة التي مازالت تتوكاً على تصورات ومعارف ومفاهيم وقيم واهتمامات الحضارات القديمة، لن يجد أهلها لهم موطئ قدم في السباق الحضاري الجياش المضطرم، إن هؤلاء الذين يتعامون عن الحقائق الساطعة للتغيرات الحضارية النوعية، التي طرأت على الحياة الإنسانية، يماثلون من يتوهم أنه يستطيع مواجهة الصواريخ والطائرات والدبابات والقنابل والرشاشات، بالخناجر والنبال والسيوف والهراوات، إنها مأساة فظيعة أن تكون الحقائق بكل هذا الوضوح والسطوع، ثم يتعامى عنها من يزعمون الكمال لأنفسهم، ويدعون الاكتفاء بما لديهم، ثم تتبرمج الأجيال بهذا الزعم وهذا الإدعاء فتبقى كليلة وعمياء عن الحقائق الساطعة، فلو انقطع الكهرباء فقط عن إمداد بيوتهم وانطفأت المكيفات والثلاجات والبرادات والأجهزة والأدوات وغيرها من المستجدات الحضارية، لضجوا بالشكوى وليست هذه المستجدات المدهشة سوى نماذج من ثمار ومنجزات الفكر الحديث الخلاق الذي حرر العقل من أوهامه، وأشعل طاقاته واكتشف كيف تتم تعبئته بالمعارف والمهارات، ومع ذلك يرى هؤلاء الزاعمون أن الحضارة المعاصرة لم تأت بجديد!!...
إن الثقافات خلال القرون القديمة كانت كلها تكرر إنتاج ذاتها، ولا تقدم إضافات نوعية تخرج بالحضارة الإنسانية عن مسارها العقيم إلى مسار منتج، بل كانت كلها تتداول الموجود ولا تضيف إليه، فإذا انهارت واحدة منها تلتها أخرى؛ لتعيد سلسلة المراحل المعتادة: التأسيس ثم النمو ثم الاستقرار ثم التدهور الذي يعقبه تغير الحكام من دون أن تتغير الأوضاع العامة للناس، ومن غير أن يحصل أي تطور نوعي للحضارة، فتبدأ دورة جديدة من الصعود والاستقرار ثم الانهيار، وتتكرر نفس السلسلة وهكذا وداليك، فبقيت الثقافات القديمة خلال القرون متماثلة، أو متقاربة المستوى والإمكانات والمعارف والقيم والاهتمامات تتأرجح بين الصعود والانحدار، ولم تكن أي منها تختلف عن الأخرى اختلافاً نوعيا، ولم تستطع أي منها أن تحقق إنجازات خارقة تتنامى بسرعة مذهلة تختلف بها عن غيرها، اختلافات نوعية كما هو الوضع الآن وإنما كلها كانت تتوارث المسيرة الاجترارية الرتيبة، وتنتهي إلى نفس المصير، لذلك لم يكن مفهم التقدم ولا مفهوم التخلف معروفين في الأزمان السابقة؛ لأن كل المجتمعات القديمة كانت في الأصل متخلفة، فالتقدم ذاته لم يكن معروفاً ولا كان أحد يفكر فيه، أو يتخيله، أو يخطر على باله، ثم حصلت طفرة والعلوم والنظم والتقنيات والكشوف في الغرب، ففاجأت الناس في الثقافات الأخرى، وأدهشتهم؛ ليس لأنهم أدركوا طبيعة الأفكار الخلاقة التي استجدت على الحضارة الإنسانية، وإنما لأنها فاجأتهم بما تملك من أسلحة متطورة جعلتهم عاجزين كل العجز عن مواجهتها، وقد انبهروا كل الانبهار بهذا التغير النوعي، الذي فاجأهم به الغزاة، ثم تفاوتت استجابة هذه الثقافات المتخلفة، فالثقافة التي تملك قدرة النماء اعترفت سريعاً بالقصور، واجتهدت في التعرف إلى العوامل الطارئة التي غيرت أوضاع المزدهرين، وسعت إلى الأخذ بهذه العوامل، واستنفرت جهدها لاستكمال ما ينقصها من أسباب الصعود، ونجحت نجاحاً سريعاً وهائلاً كما حصل في اليابان، وهناك ثقافات تلكأت في الاعتراف، ثم تداركت وراحت تغذ السير لتبني نفسها، وتضيف إلى ذاتها ما ينقصها على أسس جديدة، وبمقومات وعناصر جديدة، فحققت التقدم، وصارت تقطع مسافات التنمية بسرعة مذهلة؛ للتعويض عن فترة التلكؤ، كما هي حال الصين، وهناك ثقافات مازالت تكابر وتزداد انتفاشاً، وتدعي الكمال وتتوهم الاكتفاء فيتضاعف بذلك انغلاقها، وتستحكم قيودها، ويترسخ تخلفها، وتتراكم أسباب العجز في حياتها..
إن أي مجتمع يتجاهل حقائق الواقع المتغير سوف يجد نفسه ضمن قائمة المجتمعات المفلسة، فلم يعد أمام المجتمعات الإنسانية أي خيار سوى الأخذ بالمقومات الجديدة للتنمية الشاملة، أو السعى الحثيث إلى الإفلاس الفظيع والانتحار المروع..
إننا الآن بإزاء ثقافة جديدة مذهلة، أنجزت العجائب، وتجاوزت في إنجازاتها كل خيال، فالأمم التي تتجاهل هذه التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية ولا تحاول أن تتعرف إلى العوامل التي أدت إليها، سوف تبقى خارج المسيرة الحضارية المزدهرة، بل إنها بهذا التجاهل تعرقل هذه المسيرة بدلاً من أن تسهم في دفعها نحو الأمام، وتخسر إمكانية المشاركة في الإنجاز، وتستبقى أجيالها في حالة مكابرة عمياء، وانتفاش فارع، كما تجعلهم في حالة كلال وعقم، وتدفعهم في كل ذلك إلى مستقبل مظلم، وإلى تحمل أوضاع كارثية، إن الفرق بين الثقافة الاستثنائية لهذا العصر وما أنتجته من علوم وتقنيات ونظم ومؤسسات، مقابل الثقافات الاجترارية القديمة الكليلة، هو فرق نوعي هائل غير قابل للقياس؛ لشدة المفارقة والقطيعة والتجاوز لما كان معروفاً وسائداً وممكنا في الثقافات القديمة، إن الإنسان الذي لم يكن يعرف عن الكون والإنسان والحياة والمجتمع سوى تخمينات خيالية هائمة، هي أبعد ما تكون عن التطابق مع الواقع، قد صار الأن قادراً على التوغل في الفضاء الكوني وقياس كل شيء فيه: حجماً ومسافة وحركة وتأثيراً وتأثراً، كما تمكن من الغوص في أعماق المحيطات وقاسها عمقاً وعرضاً وطولاً، وعرف طبيعة الكون وحلل عناصره، وصار قادراً على التحكم بالطاقة الهائلة الكامنة فيه، كما توغل في الخلية الحية وعرف مكوناتها وبات يتعامل معها تعامل الماهر الخبير، وبات ينقل القلوب والأكباد والكلي من أشخاص إلى آخرين!!! إن المكابرين الذين يتجاهلون التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية يغالطون أنفسهم مغالطة فظيعة وساذجة ومدمرة، تؤكد أن الإنسان يمكن أن يتبرمج بما لا يقبله العقل السليم، ويتعارض مع أشد الحقائق وضوحاً، فيصر على أن السلحفاة أسرع من الحصان، وأن النملة أكبر من الفيل، وأن أحلام النوم أصدق من أدق العلوم..
إن التنشئة التي لا تهيئ الأجيال للفاعلية المنتجة تبخس الإنسان حقه، وتعمل على إفساد قابلياته، وتطمس فرديته، وتبقيه عالة على نفسه وأهله ووطنه، وتفوت عليه فرصة عظيمة في أن يخرج من العطالة إلى الفاعلية، فيتراكم الكلال في المجتمع، وبذلك تهدر القابليات الانسانية العظيمة، وتضيع إمكانات الازدهار..
إن التنمية باتت تحتاج إلى جناحين إذا تآزرا تفلت بهما المجتمعات التقليدية من قبضة المألوف، وتتخلص من أسر التخلف فتنطلق محلقة في آفاق الازدهار من غير أن تتخلى عن جوهرها الثقافي، إن التغيرات النوعية الهائلة التي طرأت على الحضارة الإنسانية قد أنهت إمكانية العزلة، فأصبح الجميع مرتبطين بالجميع، فما يحصل في أقصى الدنيا يؤثر في كل الشعوب، وتتأثر به جميع الأوضاع، وأي مجتمع لا يستطيع المزاحمة في السباق الإنساني نحو الازدهار سوف تتدهور أموره تدهوراً لا محيص عنه، ولا احتمال له، أما شرط السباق الحضاري المبدئي فهو الخروج من الكلال إلى الفاعلية، وأما هذا الخروج فشرطه نهضة الفكر، وأما نهضة الفكر فلابد لها من جناحين، جناح الريادة الفكرية، وجناح الاستجابة لها من المجتمعات التي تتوجه إليها هذه الريادة، لكن تحقيق هذا التآزر الضروري والتكامل العضوي بين الريادة والاستجابة الذي لا نهوض من دونه، تقف أمامه عوائق فظيعة؛ لأن كل مجتمع تقليدي يتكون من واقع قائم متين، ومؤسسات اجتماعية وثقافية وسياسية راسخة، وقيادات سياسية مهيمنة ومرهوبة، ومرجعيات ثقافية مبجلة تبجيلاً يشوبه التقديس..
أما عامة الناس في كل المجتمعات التقليدية فهم مغتبطون بالثقافة التي تبرمجوا بها، إنهم معجونون بها منذ أيام طفولتهم، فهي تجري منهم مجرى الدم، وتسري فيهم سريان الحياة، فهي التي تشكل عقولهم، إنهم نتاجها، وقد تقولبوا بها عقولاً وأخلاقاً وعواطف وأذواقا، فهي التي تحدد لهم الرؤى والمعايير، فلا ينظرون للأمور إلا بمنظارها، ولا يحكمون على الأفكار والأعمال والأشخاص والمواقف إلا بمعاييرها، فما قبلته قبلوه، وما رفضته رفضوه، لذلك لا يقبلون أن توصف هذه القوالب التي شكلتهم بأي نقص، ولا أن تتعرض لأي نقد، ولا يقتصر هذا الاندماج العاطفي التلقائي على الثقافة نفسها، وإنما يمتد هذا الاستسلام المطلق والتقدير الذي يختلط بالتقديس إلى المرجعيات الثقافية ذاتها، سواء كانت مرجعيات تاريخية مبجلة، أو مرجعيات حاضرة يلتف حولها الناس، ويستجيبون إلى توجيهاتها بمنتهى الولاء والإذعان والاندفاع، ويتعاملون معها بعواطف جياشة ومتدفقة، وبتقدير يختلط بالتقديس، وفي مثل هذا المناخ المغمور بالذوبان الثقافي، والمشحون بعواطف الولاء للسائد والمحصن بالثقة المطلقة بالموروث، والمتدفق بقوة بشكل تلقائي، لا يمكن أن يكون لريادات الفكر الحر أي قبول، مع أن هذا القبول هو الشرط الأولي الأساسي للنهوض..
ورغم أن التحصينات الثقافية بكل هذه القوة والتحفز لصد الناس، في أي مجتمع تلقيدي عن الفكر الحر، وحشدهم إلى معاداة الريادة الفكرية، وتهيئتهم للدفاع المستميت عن الواقع الراسخ، فإن عوائق أخرى كثيرة أيضاً تقف في وجه رواد الفكر، فبمقدار انجراف الناس التلقائي خلف من اعتادوا على الانقياد لهم من مرجعيات الثقافة التقليدية، فإنهم يكونون متهيئين تلقائيا بنفس القوة، بل أشد منها بأضعاف لرفض الفكر الطارئ، والإندفاع ضده، ومقاومته بحماسة متأججة، وحمية عمياء، بشتى السبل، وبمختلف الوسائل، أما القلة المستنيرة فهي في الغالب تتفرج على المشهد، من دون أن تفعل شيئا، فهم يعتبرون المبادر بالكتابة، أو الحديث، قد قال ما يودون قوله، فيكتفون به، ويتجنبون الصدام مع المخالفين، أما المعارض للمبادرة فيثور ويؤلب ويصخب؛ لأن العواطف السلبية دائماً تكون أقوى من العواطف الإيجابية، بما لا يقاس، فالمعترض الغاضب يتأجج غضبه، ويفور حقده، فيندفع إلى الرد والمقاومة، أو الثأر والانتقام، أما الموافق فإنه في الغالب لا يتحرك، ولا يؤازر، بل يكتفي بالتفرج على المشهد، فليس بداخله قوة تلقائية تحركه، وتدفعه، وإنما يبقى متفرجاً، بل إن بعض التنويريين يقفون بعضهم ضد بعض، ويسفه بعضهم بعضا!! ومن هنا يتضاعف حرج المثقف التنويري..
إن الفرق بين المقاومين للريادة الفكرية، والمؤازرين السلبيين لها، كالفرق بين السليم والمريض، فالسليم يرى السلامة شيئاً طبيعياً لا تدفعه إلى أي سلوك إيجابي أو سلبي، أما المتألم فإنه يصرخ ويحرض، ويتحرك ويحرك الآخرين، ويسعى سعياً حثيثاً إلى البحث عما بزيل الألم، إنه ينطوي على طاقة داخلية متفجرة تلقائيا، وهنا يتضح الفرق بين المعارضين الغاضبين، والمؤيدين المتفرجين..
إن حركة الواقع ومعطيات الثقافة السائدة في أي مجتمع تقليدي تتدفق تلقائياً مع مساراتها العميقة، أما رواد الفكر فإنهم يحاولون اعتراض هذا التدفق التلقائي القوى، ويسعون إلى تحويله من مجراه العميق والتليد، إلى مجرى رفيع وجديد، تنتقل به أوضاع المجتمع من مستوى أدنى، إلى مستوى أرفع، فالمهمة الإنسانية والاجتماعية والحضارية، التي يضطلع بها المفكرون، هي مهمة بالغة الصعوبة، وشديده العسر، فلا غرابة في انقضاء أعمارهم وضياع جهودهم في أحيان كثيرة من غير أي تأثير، أو بتأثير ضعيف، ولو كان الناس يستجيبون للرواد بسهولة وسرعة؛ لما بقيت الحضارة الإنسانية عشرات القرون وهي تعيد انتاج نفسها، وتدور مع مساراتها الموروثة العتيقة نفسها، فالثقافات بطبيعة تكوينها ترفض الشيء الغريب، أما الرائد فهو بطبيعة دوره طارئ بأفكاره ورؤاه على الواقع، لذلك فإن الناس يواجهونه تلقائيا بالرفض العنيد الغاضب، ولا يعترفون له بأي دور، ولا يحترمون له أي رأي، ولا غرابة في ذلك، فمن طبيعة البشر أنهم أعداء لما يجهلون، وأنهم أبناء ما يألفون، وأن قدرتهم على اكتشاف المزايا المغايرة، قدرة ضعيفة ونادرة، ندرة تقترب من العدم، فلكل هذه الأسباب وغيرها من عوامل التجاذب الذاتي، والطرد التلقائي، يضيع الرواد، وتختنق الأعمال الريادية...
إن أي قراءة متمعنة لتاريخ الحضارات تكشف بوضوح تام أن كل مكونات الواقع الثقافات التقليدية في أي زمان ومكان، تقف ضد الريادة الفكرية، وتعمل على وأدها بكل الوسائل، وتحاربها بمنتهى الشراسة، فالاعتراف بالريادة يعني استعداد أهل السلطة والنفوذ والوجاهة بالتخلي عن بعض مكاسبهم، كما يعني الاعتراف بقصور الراهن وحاجته إلى التغيير والتطوير، وهذا يتعارض مع اتجاهات أهل السيادة، ومع مصالح كل المنتفعين من استمرار الأوضاع القائمة، كما يتعارض مع ما تبرمج به الناس عقولاً وعواطف وأخلاقاً، كما أن قبول الأعمال الريادية يعني الاعتراف بتميز الرائد، واختلافه الإيجابي في التفكير والقيم والأهداف عن البيئة السائدة، وعن عامة الناس، بينما أن الناس فيما بينهم بطبيعتهم لا يعترف أحد لأحد بأي مزية، وكل هذه التنازلات والتحولات والاعترافات ليس من المألوف حصولها، بل تقف ضدها مصالح قوية مسيطرة، وحواجز ثقافية منيعة، وعوائق نفسية راسخة، وأسبقيات معرفية متأصلة، تعطل مسيرة الريادة، وتئد نشاطها، وتنفر الناس من قبولها، وتحول دون تأثيرها..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.