هذا المنهج النبوي الرائع، الذي يتمثل في عدم الإفصاح عما يُخشى أن يؤثر سلبا في نفس السامع، وليس تجاهلا من باب التقليل من شأن أحد، ولكن لهدف نبيل وحاجة في نفس يعقوب قضاها. إن الحفاظ على مزاج من تحاوره، ومراعاة العامل النفسي لمن تخالطه، أمر مهم لدوام المحبة، وأدعى لنمو أواصر المودة، لذلك لا بد من النظر بعين الاعتبار إلى كل جانب يسبب حرجا لمن تحب، وكل زاوية لا يسره أن تراها أو تطلع عليها فتغض الطرف وتعرض عنه إعراض من يرغب في بقاء الصلات، ولا تُعرفه بها رغبة في الصفح فلعله يرجع، ولعله إن علم أنك تعلم عنه ما يعيبه ويشينه خلع برقع الحياء، وجهر بما كان مستورا في الخفاء. إن الخطأ الكبير أن نتحدث بكل شيء بدعوى المكاشفة، وأن نصارح بلا حدود بدعوى الشفافية، فهناك أمور لو قيلت قبل الحدث ربما تؤثر في نفسية السامع وأتت بنتائج سلبية، ولو أرجأناها لكانت نسيا منسيا، وأثمرت نتائج إيجابية، أرأيتم نبي الله يوسف عليه السلام «فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم»، لذلك امتدح نبينا صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس: «إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل، الحلم، والأناة». فبالحلم تُدرأ كثير من الخلافات، وبالأناة تكسب القلوب، وبالرفق ترتفع منزلتك، وتتبوأ مكانا عليا. ربما يتساءل بعضنا هل يمكن لي أن أتحلى بالحلم، وأنا من طبيعتي عصبي المزاج؟ الجواب نعم، فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلم. أما الأناة فهي من التأني والتريث، وتدخل في الرفق من أوسع أبوابه، وما دخل الرفق في شيء إلا زانة، وبالرفق تستقيم الحياة، وتدوم المحبة، وبالرفق تكسب الأجور العظيمة، وبالرفق يقل ندمك على تصرفاتك لقلة خطئك، نعم، إن من يمتلك هذين الصفتين يكون قد حاز شرفا عطيما، لأنه ينضوي تحت لواء أحباب الله. ويكون التأني في الكلام، ففكر قبل أن تتحدث، فكلامك أنت من يملكه قبل أن تقوله، فإذا قلته فقد ملكك، ورب كلمة قالت لصاحبها: دعني. لقد أخبر الوحي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة التحريم بتفاصيل القصة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم أثناء الحوار عرف بعضه وأعرض عن بعض، نعم، أعرض من أجل المصلحة، أعرض لأنه ليس كل ما يعرف يقال، أعرض لأنه يريد الإصلاح ما استطاع، لأنه لا يريد التشفي ولا الانتقام ولا تصيد الأخطاء. إن التجاهل فن من فنون التربية، يعطي المتربي فرصة التغيير، فيا أيها المربي لا تدقق في كل شيء، ولا تسأل عن كل شيء، ولا تتدخل في كل شيء، وكن كعابر سبيل يرضى بالقليل، ولا يعاتب ولا يعنف ولا يجادل. ما أجمل الحياة إذا بنيت على حسن الظن «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم». وما أروع أن نتخلق بهذا الخلق الكريم في شهر رمضان المبارك، عسى أن يكون لنا سجية لازمة في تعاملنا مع أبنائنا ونسائنا وجميع من حولنا.