لا أعرف لماذا استوقفني موضوع البصمات الخمس الذي تحدث عنه الناس في الداخل والخارج، بعد ان كان موضوع جدل في امانة المدينةالمنورة بين الأمين وموظفي الامانة خلال الفترة الماضية، الموضوع كشف عن خلاف بين موظفين في الوظيفة العامة تطور في بعض صوره الى شكل غير مألوف في التعاطي في بلادنا. ومع محاولات الاعلام استجلاء الموضوع تبين ان الادارة لها وجهة نظر شخصية قد تكون بعيدة كثيرا عن وجهة النظر الادارية والعلمية، انا شخصيا شعرت ان الامين يبالغ في احتضان الوظيفة الى درجة قريبة من سلوك التملك المرضي. وربما نتذكر انه قال لوسيلة اعلامية انه يقضي يوميا في عمله ما بين 13 الى 14 ساعة يومياً، وهذا خارج عن الطبيعي وعن المألوف مثل اجبار الموظفين على الاتيان يوميا بخمس بصمات!! خارج عن المعقول. المفيد ان هذا الصراع انتهى، وقضي الامر كما يقال. الخوف ان تتكرر مثل هذه القصص اللا معقولة في مكان اخر وتتناقل اخبارها المحطات والاذاعات ووسائل التواصل مما يجعل بلادنا وأنظمتنا الادارية محل تندر واستغراب من الاخرين. وأثناء فترة تداول هذا الموضوع حدثني اكثر من صديق، وفي اكثر من مجلس بقصص مشابهة ربما تشير الى خلل ما او عدم وضوح عند من يتولون المسؤولية والوظيفة العامة ويعتقدون انها اصبحت من الممتلكات التابعة لهم، بما يعني تجاهل كل نظام او تنظيم حول الوظيفة العامة ومهامها وما لها، وما عليها. اخبرني صديق يعمل في شركة كبرى لها فروع في معظم المناطق، بان مكتب الشركة الرئيس ارسل للفرع الذي يعملون به وهو من الفروع المهمة، يطالب بإرسال ورقة تثبت حضور وانصراف الموظفين بشكل يومي على ان تجمع هذه الاوراق على مدى ثلاثة اشهر ويزود بها المركز الرئيس! علمان ان في بوابات مداخل الشركة قارئة بصمة الكترونية تسجل حالة الدخول والخروج للموظفين! ونظرا لان طبيعة العمل لا تستدعي ان يظل الموظف في مكتبه طوال اليوم حيث ان البعض مطالب بحضور ندوات ومحاضرات وعروض تسويقية وحفلات افتتاح ومعارض ممثلا للشركة فان مثل هذه الاجراءات تعد اهدارا للوقت وشكلا بيروقراطيا عقيما. المفيد وبعد حديث مع مدير الفرع اتفق الجميع على ان يُكتفى بالبصمة، وان يباشر الموظفون صلب عملهم بالطريقة المثلى اي اداء الزيارات العملية، وان اي عتاب او ملاحظة من قبل الفرع الرئيس سيتم التعامل معها من قبل الرئيس مباشرة لحله وتجاوزه. بقيت جزئية التوقيع الورقي اليومي وجاء الاتفاق حولها بان تعد كشوف كل ثلاثة اشهر وتوقع في نهاية المدة وترسل للفرع الرئيس كإجراء مطلوب لا أكثر، يجنب الفرع المساءلة، ولا يعيق تأدية العمل على الصورة المطلوبة. ولما انقضت الثلاثة الاشهر الاولى بعد الاتفاق وجاء الموظف المكلف بانجاز هذه الاوراق لكي ترسل في الوقت المناسب وقع الجميع في مشكلة، وهي ان احد الموظفين رفض ان يوقع اوراق انصراف وحضور ثلاثة اشهر في عشر دقائق، معللاً ذلك بانه كذب لا يمكن ان يشارك فيه!! المهم استوفيت التوقيعات من الجميع إلا من الموظف الذي لا يريد ان يكذب!! بأمل ان يقنعه رئيسه المباشر، او مدير الفرع في وقت لاحق، ولكن محاولات الرجلين ذهبت سدى وخيره مدير الفرع في امر وهو ان ترسل الاوراق بدون توقيعه على ان يتحمل هو بشكل شخصي مواجهة اي قرار يصدر من الادارة العامة. وكان هذا ما حدث بالفعل، وارسلت الاوراق المحشوة بتواقيع ثلاثة اشهر لعدد كبير من الموظفين استغرقت وقتا في التوقيع من كل موظف وفي ترتيبها من الموظف المختص، وايضا في ارسالها كما انها تكلف الشركة قيمة ارسالها في البريد الى المركز الرئيس. عموما تم كل ذلك في قلق من مدير الفرع الذي توقع ان تصله مساءلة عن توقع الزميل الناقص، وتوقع لوما على ذلك له مباشرة لانه يمهر كل ورقة بتوقيعه وختم فرع الشركة مما يعني المسئولية المباشرة له قبل غيره. إلا ان الايام مرت مر السحاب ولم يسال احد عن مافي بطون تلك الاوراق التي لا تساوي جزءا من الوقت الذي بذل في انجازها. وبعد ان تكرر ارسال نفس الاوراق بذات الكيفية لأكثر من مرة، وفي احد الاجتماعات الدورية قرر مدير الفرع تحمل المسؤولية الكاملة عن الامر ووقف ذلك العبث الذي يضيع وقت الناس ويذهب جُفاء، وقرر الرد مباشرة عن اي مكاتبة بهذا الخصوص على ان الفرع تحت مسؤوليته، ومادام يحقق الاهداف العليا للشركة فيجب ان يكون الكل سعيدا، وإذا حدث اي اخفاق فهو على استعداد لتحمل النتائج وبكل شجاعة. القصة الاغرب والأعجب سمعتها من زميل اكد انه في زمن سابق كانت بعض المصالح الحكومية التي لها فروع في خارج البلاد ترسل ورقة الحضور الصباحي موقعة من الموظفين بالفاكس الى الوزارة في الرياض من اقصى ارض الله وبفارق توقيت يبلغ ساعات بمعنى ان ورقة التوقيع تصل الى الرياض ويستقبلها جهاز الفاكس والموظف المكلف باستقبالها ما يزال في فراشه نظرا لفارق التوقيت، وعلى الجانب الاخر اوراق الانصراف تصل بنفس الالية من بعض الدول وقد غادر الجميع مكاتبهم. ما يبعث على الدهشة ان اجهزة البصمة الالكترونية كلفت مبالغ طائلة وهي مربوطة عبر الاقمار الصناعية او وسيلة اخرى بالوزارة الام، ومع ذلك لم يسأل احد يوما عن الانتاجية. ولم يتصد احد بشجاعة للمسؤولية في تنفيذ العمل حسب المصلحة العامة ومراعاة ظروف الواقع والعقل والمنطق، وكل ما نشاهده ونسمع عنه، إما تبصيم جنوني زائد عن الحد، وإما انفاق مبالغ فيه على وسائل لضبط ايقاع الوظيفة دون تلمس حاجة الموظف وتحميله المسؤولية الاخلاقية والوطنية بالتزامن مع المعقول من وسائل الرقابة التي تحافظ على عطاء وولاء الانسان.