تشهد الساحة الثقافية بين حين وآخر هبَّاتٍ دافعها الحَميّة، إلا أنها سرعان ما تنقشع دون أن تضيف إلى المشهد الثقافي شيئا يذكر. فلو أشرتَ، على سبيل المثال، إلى فترة إفلاس ثقافي في مرحلة تاريخية ساد فيها التكلف والإسفاف، ورجَحَت فيها كفة التنميق اللفظي على حساب المضمون، فقد تجد، لسبب ما، من يدافع عن تلك الفترة القاحلة وكأنه أحد أقمارها الآفلة. سوف تكون عبارة «الإفلاس الثقافي» مستفِزَّة للغيارى من أهل النخوة والحَميَّة. وسوف يهبُّ منتفضا من يذود عن حياض ذلك الإفلاس خصوصا حين يرتبط الوصف ب«الحِمَى الثقافي» إذا جاز هذا التعبير. سوف تُجرد الأقلام من أغمادها، وتنشد الجوقة نشيدا عاطفيا لفترة أسبوع أو أسبوعين، ثم يهدأ الضجيج في انتظار هبَّة أخرى عابرة في كلام إنشائي عابر. كلما ثارت زوبعة مشابهة تساءلت: ما سر تلك الحماسة المفرطة المصابة بعمى الألوان؟ لعل أحد أسباب تلك الحماسة المفرطة ما ألفناه منذ الصغر. فقد اعتدنا على سماع وجهة نظر واحدة، وحفظ رواية واحدة من مصدر واحد، حتى صارت كل رواية مختلفة عن رواية المصدر تسبب لأهل الحميَّة صدمة عنيفة لأنها تهز الثقة بالقناعات المتوارثة. وقد عطل هذا الانتشاء النرجسي القدرةَ على بلورة فكر نقدي موضوعي حيادي متجرد يرفع عن الموروث الثقافي الحصانة حتى لا يكون فوق النقد. وبذلك يمكن التعرف على مواطن ضعفه وقوته، والنظر إلى الجانب المليء والفارغ منه. كما فعلت المجتمعات التي غلَّبت الجانب العقلي على العاطفي. يلاحظ جورج طرابيشي في كتابه القيّم (هرطقات) أنه غالبا ما تُلقى أسباب الفشل في بلدان العالم الثالث على عاتق «الإمبرياليين الأجانب» وليس على الثقافة الموروثة. وما أسهل العثور على مشجب! غير أن عدوى تلك الشوفينية لم تصب المفكر الصيني (بو يانغ) مؤلف كتاب (الصيني البشع) لذلك لم يبحث عن مشجب يعلق عليه أسباب تخلف مجتمعه، بل حمّل الثقافة الصينية الموروثة جزءا من ذلك الفشل. فماذا عن المحيط الثقافي العربي؟. يجيب طرابيشي عن هذا السؤال فيقول: {رغم التشابه بين الوضعية الثقافية الصينية والوضعية الثقافية العربية، فإن الخطاب العربي قد اتجه في العقود الأخيرة أكثر فأكثر إلى نقد «تَقَدُّم الآخر» بدلا من نقد «تَخَلُّف الذات». فهل نحن بحاجة إلى (بو يانغ) عربي؟ ربما}. أشرت مرة إلى حكاية رواها أبو الفرج علي بن الجوزي في كتابه (الأذكياء) قال: قال ابن القصاب الصوفي دخلت البيمارستان (المشفى) فرأيت فيه فتى مصابا، فقلت له: «من السَّخي؟ قال الذي رزق أمثالكم وأنتم لا تساوون قوتَ يوم.» تساءلتُ بعد تأمل هذه الحكاية: ترى ما هو وقع هذه العبارة الصاعقة التي تختزن داخلها كل ذلك النقد اللاذع على المتلقي أو السامع، لو لم يكن قائلها فتى غلبان يسكن البيمارستان؟. وبعد: لماذا يصبح الرأي الآخر مستفزا ومزعجا؟ هل لأن السادة المستَفَزِين (بفتح الفاء) يعتبرون أنفسهم جزءا من الصورة العامة، وأن المساسَ بتلك الصورة الزاهية مساسٌ بأشخاصهم. ولذلك يخشون الإفاقة من تلك الغيبوبة النرجسية؟. لكن المفارقة الغريبة هي تلك الانتقائية في الدفاع عن الثقافة الموروثة. فالتراث الثقافي الثري الذي ينبغي أن يكون موضع عناية ودراسة وتحقيق كنقطة انطلاق نحو المستقبل، هو نفسه الذي تمَّ طمسه وبإصرار عبر مراحل التاريخ المختلفة، فلم تشمله تلك الحَميَّة برعايتها، ولم يستفز حجبُه أو تغييبُه أحدا!.