الايمان نبع الأخلاق الإنسانية، والطاعات شرعت كوسائل لإصلاحها والثبات عليها حتى لا تتبدل مع تبدَّل أحوال الانسان في الحياة صعودا وهبوطا، فثبات الانسان على الاخلاق مع تحولاتِه المختلفة التي يلابسها من غنى وفقر، وارتفاع وضعة، وفرح وحزن، وصحة ومرض، معيار لعمقها وصدقها. ما انتهت إليه المدنية من تبدل نظر الناس إلى الأخلاق بتبدُّلِ أحوالهم في الحياة مشاهد، فترى الفقير من الناس إذا أيسرَ تسمَّحَ في الفجور والعكس يقع، وهكذا الصحيح والمريض والقوي والضعيف ونحو ذلك من أحوال تتبدل أخلاق بعضهم مع تبدل حاله، والدين يقرر ثباتَ الاخلاق، ويدعو النفوسَ لذلك، ويحيط المجتمع بقيم إنسانية لتحقق ثبات الأخلاق فيهم مهما اختلفت أحوالهم. الانسان كمادة من عظم ولحم ودم لن تتغيَّر، والسُّننُ الإلهيةُ التي تُوجدها وتُفنيها لن تتبدَّلَ، فهي مصرفة لها قاضية عليها، وبين عمل هذه المادة وعملِ قانونِها فيها تكونُ أسرارُ التكوين، وتاريخ الإنسانية كله يموج بغرائز تعمل بما قدره خالقها فيهم، فهي محكمة محدَّدةٌ على ما يكونُ من تنافر واختلافِ بينها، وكأنها خُلقتْ بمجموعها لمجموعها، فالأخلاق في عمقها المعنوي قانون إلهيّ له قوَّة كقوَّةِ الكونِ وضبط كضبطه، يستطيع تحويل المادة التي تعارضه متى قوي، ولكنَّه يتحوَّلُ معها إذا ضعُفَ، فهو قدَرٌ إلا أنه في طاعتك، وهو قوَّةُ تفصل بين ما هو إنسانيّ أو حيواني، وهو قوَّةُ للمزج بينهما، وهو قوة للتعديل فيهما، ولولا أنَّه بهذا المعنى لم يكن للإنسان طول تاريخه أحوال تؤرَّخ الفضائل، أو الرذائل بمدح أو ذم. العبرة في هذا ليست بمظاهر الحياة في الفرد؛ لأنه مقيَّدٌ في نفسه بمجموع وليس وحده؛ فالغرائز دائبة في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسُنَن، ودائبة في إهلاكه في النوع نفسه بسننٍ أخرى، فليس قانونُ الفرد إلا أمرا عارضا، وبهذا يمكن أن يتحولَ الفردُ لأسباب مختلفة، وتبقى الأخلاقُ التي بينه وبين المجموع ثابتة على صورتها، فالأخلاق على أنها في الأفراد لكنها في حقيقتها حكمُ المجتمع على أفراده، فقِوامها بالاعتبار الاجتماعي. ولذلك متى وقعُ الفساد في شيء متفق عليه من آداب الناس، والتوى ما كان مستقيما، وسقطت المبالاةُ بالضمير الاجتماعي، لم يُعجب الناسَ إلا ما يُفسدهم، وصار ذلك منهم بموقع القانون، وحل محل العادة، عندها لا تجد مِساكَا للخُلُق السليم في الفرد، فيصبح الفرد في حقيقته مُتصدِّعاً في كل مظاهره الاجتماعية، وما وقع له من أعمال جاء معوجا، لأنه تحول من عالم إلى عالم ثان بغير نواميس الأول بتأثير المجموع، وما شذَّ عن هذه القاعدة إلا الأنبياء، وأفراد من الحكماء، فالأنبياء هم قوةُ التحويل في تاريخ الإنسانية، فلا يُبعثُ نبي إلا ليهيجَ به ما درس من الدين والاخلاق، فيفتح للناس سبل الاستقامة، فإذا استقرت في القلوب تجد من اتبعها كأنما تدفعه إليها قوة لا تغلب، وليس مجرد شريعة، أما الحكماء فدون الأنبياء لكنهم حصون للإنسانية تحفظ كنوزها، وتحرزها بالقول والعمل، فهم في ذاتِ أنفسهم مَنَعَة كالجبال في ذات الأرض. إن الأخلاق قانون ينظم شخصية الفرد على مقتضى الواجبات العامة، والإصلاح فيها يعظم بقوة المجتمع والحكام، والشعوب لها ظاهر وباطن، فباطنها الدينُ الذي يحكم الفرد، وظاهرها القانون الذي يحكمُ الجمع. ومن هنا يتضح الخلل في المدنية الغربية، فالأخلاق في ظاهر الشعوب دون باطنهم، والفرد فاقد لها في ذاته إذا تحلل من الدين، فهو وإن بدا قائما بالآداب العامة التي تفرضها القوانين في الظاهر الاجتماعي إلا أنها غير ثابتة فيه، ولا يعتد بها إذا لم تجلب له منفعة، بل يعتبرها مضرة إن حالت دون هواه، ولا ينفكُّ هذا الفرد يتحول، لأنه مطلق في باطنه غير مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، والفضيلة والرذيلة عنده منعدمة في حال الهوى، فغايته المتاع واللذةُ والعلو، بأي سبب كان.