يعد حنيف قريشي (1954م)، ذو الأصول الباكستانية، أحد أبرز الكتاب البريطانيين المعاصرين، بل هو من بين أفضل خمسين كاتبًا بريطانيًا منذ 1945م، حسب القائمة التي أصدرتها صحيفة التايمز. وهو فضلًا عن كونه روائيًا وكاتب قصة، كاتب سيناريو ومسرح وصانع أفلام. في روايته السابعة (الكلمة الفصل) أو (الكلمة الأخيرة) يقدم، كما تقول صحيفة الغارديان «تأملات عميقة حول مهنة الكتابة، والقراءة وكتابة السيرة، ومصيرها في ما يمكن أن يطلق عليه ثقافة ما بعد الأدب»، في إشارة إلى تراجع حظوظ الكتابة ذات الطابع الأدبي لصالح فنون أخرى من الكتابة الخفيفة والعابرة والسريعة التي لا يبدو أنها ستنجح في اجتياز اختبار الزمن. الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما مأمون عزام وهاري جونسون وكلاهما كاتبان، غير أن الفارق بينهما هو أن الأول كاتب روائي في السبعينات من عمره، وهو أيضًا من أصول هندية، حقق نجاحًا كبيرًا عبر مسيرته الكتابية، مع تراجع ملحوظ في السنوات الأخيرة من حياته. أما الآخر فهو كاتب في مطلع سنوات شبابه، وهو مختص بكتابة السيرة، وهذا فن قائم بذاته لدى الغرب، له كتابه المكرسون وتاريخه العريق. يتم تكليف هاري بكتابة سيرة عزام، وهي سيرة فيها الكثير من الجدل والخبايا والزوايا المظلمة التي تحرص زوجة عزام الثانية الشابة، والتي تزوجها بعد رحيل زوجته الأولى، أكثر منه على إبقائها في الخفاء. أحد الأوجه المثيرة للجدل في هذه الرواية هو ما أثير حولها من أنها تلمح بطرف خفي إلى الكاتب ف. س. نايبول، الذي تتقاطع مكانته وسيرته، بل حتى بعض ملامحه الجسدية مع شخصية عزام في الرواية. فيما يلي نقدم للقارئ الكريم جزءًا من الفصل الأول من الرواية: حدق هاري جونسون من نافذة القطار نحو الريف الإنجليزي وفكر أنه ما من لحظة تمر دون أن يحكي شخص ما حكاية ما. وإذا ما صمد حظه لبقية النهار، فإن هاري كان على وشك أن يجد عملًا يتمثل في سرد حكاية الرجل الذي كان على وشك زيارته. وفي حقيقة الأمر، فقد تم اختياره ليروي حكاية هذا الرجل كاملة، هذا الفنان المهم. كيف، تساءل، وقد انتابته قشعريرة، بدأتَ القيام بذلك؟ من أين تفضل البدء، وكيف لهذه القصة، التي لا تزال تعاش، أن تنتهي؟ والأهم من ذلك، هل كان هاري قادرًا على القيام بمثل هذه المهمة؟ إنجلترا الآمنة، التي لم تمسها الحرب، أو الثورة، أو المجاعة، أو الاضطراب الإثني أو الديني. ومع ذلك، إذا ما كانت الصحف على صواب، فإن بريطانيا جزيرة صغيرة شديدة الازدحام، تزخر بالمهاجرين، الذين يتشبث العديد منهم بأطراف البلد، كما لو كانوا على متن قارب على وشك أن ينقلب في الماء. ليس ذلك فحسب، فهناك الآلاف من طالبي اللجوء السياسي واللاجئين، الذين يستميتون للهروب من الاضطرابات في بقية أرجاء العالم المشبع بالفوضى، ويحاولون عبور الحدود. بعضهم مكومون في شاحنات، أو معلقون في عجلات القطارات؛ والعديد منهم يمشون على رؤوس أصابعهم عبر القنال الإنجليزي فوق حبال مشدودة متدلية فوق سطح البحر، في حين كان يُقذف بآخرين من مدافع موجودة في (بولون). كم تبدو الأشباح أسعد حظًا! في غضون ذلك، مما هو بادٍ، منذ الأزمة الاقتصادية، فإن كل من على متن البلد كانوا قريبين من بعضهم بعضًا، ويعانون من رهاب الاحتجاز لدرجة أن الواحد منهم صار ينقلب على الآخر مثل حيوانات واقعة في شَرك. ومع النقص القادم– وظائف قليلة، ومعاشات مخفضة، وضمان اجتماعي هزيل- فإن حياة الناس ستنهار. الأمان الذي نشأ في كنفه هاري وأفراد عائلته في الفترة التي تلت الحرب قد تلاشى الآن. ومع ذلك فقد بدا لهاري الآن كما لو ان الحكومة تحقن عن عمدٍ جرعة قوية من الجزع في الجسد السياسي، لأن كل ما يستطيع أن يراه كان إنجلترا الجميلة الخضراء: ماشيةٌ تنعم بالصحة، وحقول نظيفة، وأشجار مشذبة، وينابيع متدفقة، وسماء بواكير الربيع المشرقة. لم يبد الأمر كما لو كنت تستطيع الحصول على الكاري لأميال. كان هناك صوت أزيز، تبعه رشرشة الشراب على وجهه. أدار رأسه. كان روب ديفرو، الذي يجلس قبالة هاري ويقوم بفتح علبة أخرى، ناشرًا محترمًا ومبدعًا. كان هو من تقدم إلى هاري بفكرة كتابة سيرة للكاتب المرموق المولود في الهند مأمون عزام، الروائي، وكاتب المقالة، والكاتب المسرحي الذي أعجب به هاري منذ كان مراهقًا مدمنًا على الكتب، ومتذوقًا نهمًا للجُمل، فتى كان الكتاب بالنسبة له بمثابة........ والأبطال ونجوم الروك. استجاب هاري للدعوة على الفور وكان متحمسًا للأمر. بعد سنوات من الدراسة وتقديم فروض الطاعة، صارت الرياح تجري بما يشتهي، كما تنبأ له معلموه إذا ما حافظ على تركيز أفكاره ولم يطلق العنان لشهواته ولسانه. هذه هي فرصته السانحة؛ ولم يكن من المستبعد أن تغرورق عيناه بالدموع من الارتياح والمشاعر الجارفة. إنه يستحق ذلك، قال في دخيلة نفسه. قبل عامين مرا، حين كان في أواخر العقد الثالث من عمره، نشر هاري سيرة حظيت بقبول كبير لنهرو محتوية على كثير من المواد الجديدة، وعلى الرغم من أن القصة المعتادة الآن، وفق الطريقة الحديثة، لا بد أن تكون مطعمة بالعلاقات المتداخلة الأعراق، والإدمان، والأنوركسيا، فإن العمل في مجمله قد عُد إضافة مهمة حتى أن الهنود أنفسهم أحبوه. بالنسبة لهاري، كان ذاك العمل بمثابة «الواجب المنزلي». كان يكتب المراجعات للكتب ويدرّس، في ذات الوقت الذي كان يبحث عن مشروع يستثمر شغفه الإبداعي، وطاقته، والتزامه فيه؛ شيء، كان يأمل، أن يصنع له اسمًا، يكسبه مزيدًا من الشهرة، ويمنحه مستقبلًا مشرقًا.