فكرة المجتمع المدني قديمة ومتأصلة في كل المجتمعات والأمم. وهي موجودة بشكلها الأولي الخام في مجتمعنا منذ زمن بعيد. إلا أن التأريخ لظهورها كمصطلح جاذب لم تبدأ هسهساته في فضائنا الاجتماعي وأدبياتنا السياسية إلا نهاية التسعينيات. حيث بدأت في مرحلة ما بعد التلويح بمنظمات المجتمع المدني العابرة للحدود. والمفارقة أن هذا المبدأ الذي يُفترض أن يكون نواة لمجتمع ناهض ومتكافل ومتعاهد على منظومة من القيم الخيّرة لم يعد كذلك. إذ لا يمكن التغاضي عن حالة التكاره التي تصاعدت بشكل مخجل. وهو انحراف قيمي لا يُلاحظ بين الجماهير وحسب، بل يمكن الارتطام بمنغصاته عند من يوصفون بالنخب. كل ما تم استجلابه وتداوله حول ضرورات ومتطلبات حضارية للمجتمع المدني من أفكار المساواة، وإعادة الاعتبار للفرد، والعدالة ومجتمع المسؤولية، ومواءمة الحالة الاجتماعية بالحالة المدنية، كل ذلك وغيره تحول إلى وقود للفُرقة والفتنة. لأن الحضارة عندما تأتي إلى .. صغير، بتعبير تشيخوف، تجعله .. كبيراً. وهذا هو ما حدث بالفعل حيث تمت طأفنة تلك المكتسبات الإنسانية، وإعادة تكييفها لتتناسب مع ذهنيات التحريم والانغلاق ورواسب الإقطاع. وهو أمر طبيعي لمجتمع لا زال يفسر التاريخ، ويعيش الحاضر، ويقرأ المستقبل من منطلقات عقدية، بشكلها الارتكاسي. بمعنى أن معظم ما يُطرح اليوم من استبشار بلحظة المجتمع المدني ليس سوى قشرة شكلية رهيفة لتخبئة عيوب مجتمع رافل في القبلية والطائفية ..والعصبية. إن فشل المنادين بفكرة المجتمع المدني أمام تغول تلك التشوهات المذهبية والقبائلية ..، لا يعني قصور المبدأ ذاته. ولكن ذلك الإخفاق يحيل إلى عطالة مُخلة ينبغي البحث عن سببها، ودرس سُبل تخطيها. لأن فكرة المجتمع المدني على درجة من الكفاءة والفاعلية والجمالية إذا ما تم التعامل معها بوعي. وهي قضية هامه في تاريخ المجتمعات. حيث تعمل على ترميم وإنهاض البناء التحتي للمجتمع. وتهيئة الأرضية الصلبة الخصبة لمجتمع عصري مكتمل العناصر من الوجهة البنائية. لاستكمال بناء الدولة الفوقي. هناك مؤشرات كثرة وماثلة في مشهدنا الحياتي على ضعف وبؤس الأداء لبعض متبني فكرة المجتمع المدني. حيث تم توظيف مبادئ الفكرة لتشكيل غيتوات طائفية أو حزبية منغلقة، فيها ملامح ذلك المكتسب، ولكنها لا تؤدي رسالته المتوخاة. إلى درجة ظهور ما يمكن تسميته بالمجتمع المدني الطائفي. وهو مآل على درجة من الخطورة. وتلك نتيجة طبيعة لوعي وإحساس القائمين على تلك الفكرة. وإذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية، بتعبير غسان كنفاني. بمعنى أن التخلي عن الفكرة أمر غير وارد، ولكن التخلّص ممن انحرفوا بهذا المكتسب الإنساني مسألة ملّحة. انحراف منظمات المجتمع المدني ليست دعايات مضادة لمن باتوا يعرفون بامبرياليي الفضيلة. فهناك شُبهات حول ... غموض أجندات العمل، ومدى صدقية تلك المنظمات في تبني الثقافة المدنية ومستوجبات السلم الاجتماعي، والمنزع الأخلاقي لتلك المبادرات التي تبدو في ظاهرها طوعية وذات توجه سلمي. إلا أن الأحداث والوقائع تكشف عن حقائق مغايرة لدعاواها، وتضع معظمها تحت طائلة الشك. فهناك موارد مالية دولية ضخمة لتنمية منظمات المجتمع المدني. ولكنها لا تصل إلا إلى أيدي فئة قليلة تعمل من موقع المشغّل للجماعات، حسب مصالحها ومزاجها. وبدون أي رقابة مالية أو مساءلة لما تم إنجازه على الأرض. ولا شك أن انتماء أي فرد من مجتمعنا لمنظمة من تلك المنظمات يُشعره بالتقدير المبالغ فيه لأهميته كذات عاملة وفاعلة في المجتمع الذي ينتمي إليه. كما يدفعه إلى بذل المزيد من الجهد والحماس نظير ما يتلقاه من دورات تدريبية مجانية مستمرة. واجتماعات دورية. وبموجب سُمعة لا تكلفه أي شيء. ولكن هذا الفرد، ربما لا يدري أنه يعمل بتوجيه لا مرئي من قوة كبرى، خارجية أو داخلية. أو ربما يعلم بهذا الفخ الملذوذ، وقد استمرأ حالة الاستمتاع برفاهيته. وعليه، يبدو مستعداً لتنفيذ أجندة الجهة المشغّلة. حيث تمتلك تلك القوى الممولة من المال ما يكفي لا لإغراء الأفراد وحسب، بل للسيطرة على الأحزاب والجماعات. إن ظهور المجتمع المدني الطائفي بهذه الصورة البغيضة هو مظهر من مظاهر الانحراف الصريحة بفكرة المجتمع المدني. وتلك نتيجة طبيعية ومؤسفة في آن لوجود أفراد وفئات وجماعات تعمل تحت مظلة منظمات المجتمع المدني، فيما هي تعزف على الخلافات الطائفية، وتؤسس لنزاعات انفصالية داخل المجتمع، بدعوى رفع الحيف عن فئة أو طائفة. ويالتالي فهي تلوّح بالعنف كحل ليس مع المجتمع السياسي وحسب بل ضد مختلف الطوائف والفئات المجتمعية. وهو انحراف يخالف متطلبات المجتمع المدني، الذي يشكل في الأصل أداة ضبط للغرائز، وصمام أمان شعبي للمجتمع، وليس وسيلة لتهييج العداوات وإحياء الكراهيات واختلاق الكانتونات الطائفية.