باعتبار الوظيفة العقلية للحوار فإنه أساس لكثير من الثوابت في العقل الاجتماعي، وكلما تراجع ذلك الحوار بين الأفراد داخل الأسرة أو المجتمع أو الوطن أو الدول، تراجعت تلقائيا فرص التسويات والحلول والمعالجات المنطقية للمشاكل التي يمكن أن تتطور سلبا إلى أزمات، لذلك يبقى الحوار أحد أعمدة الحكمة الإنسانية؛ نظير ما يفتحه من آفاق لاستكشاف الكامن في العقول والنفوس والتعامل بشفافية ووضوح معها. الحوار الأسري -تحديدا- هو حجر الزاوية في كل مفاهيم التواصل العقلي والنفسي، فالحصول على إطار دلالي مبكر بين أعضاء الأسرة الواحدة يختصر كثيرا من المسافات الطويلة للتقارب والوصول إلى حالة ذهنية ونفسية إيجابية، لا تضع صغيرا في متاهة يبقى فيها حائرا يبحث عن دليل، قبل أن تعصف به رياح غير طيبة، وحين نربط النشأة بمظاهر التعصب التي يمكن أن يتربّى وينمو فيها الطفل، نجد أن فقدانه للحوار المبكر مع البيئة المحيطة؛ ينتهي به إلى دوامة يجهد نفسه للخروج منها. وحين ننظر إلى المراحل العمرية التي ينشأ فيها الطفل؛ نجد أنه من المنظور السيكولوجي أن سن الخامسة أحد أكثر فترات عمره حساسية؛ نظرا لبدء تشكل الوعي واستيعاب المحيط، وحين لا يجد حوارا تبدأ تتراكم في الذات كثير من الأسئلة أو يستعيض عنها بسلوكيات وتصرفات سلبية تغطّي عجزه عن الوصول إلى خلاصات منطقية، تتناغم مع براءته، وربما يصبح عدوانيا وتائها. وفي ظل الواقع الحالي من التطورات المحيطة بالمجتمعات وما يمكن مشاهدته في وسائل الإعلام التي يتلقّى منها الجميع السلبي والإيجابي، فإن قدرته على التمييز في ظل ضعف الحوار تجعله وسطا بين أن يكون في حالة صحيحة أو خاطئة، ربما تهيئه لأن يكون عصبيا؛ لأنه لا يجد حلا لمعضلة أو حسما لمشكلة، وذلك يعني قربه من التعصّب سواء كان اجتماعيا أو دينيا أو في أفضل الأحوال رياضيا. إذن، الرابط كبير بين حالات الانحراف العقلية التي تتطرف وتتعصّب وفقدان الحوار الذي يفترض أن يوفر طاقة ووقاية لعقل الناشئة في مواجهة التيارات المضطربة والمتباينة من الأفكار والمعارف، وبالتالي فلا سبيل لمكافحة تداعيات السوء في التنشئة الصحيحة إلا باعتماد الحوار وسيلة فعالة لتطوير الذكاء الاجتماعي وتمكين الصغار الحد الأدنى من الأدوات التي تجعلهم أكثر قدرة على فلترة وتمييز الأفكار والمعرفة التي يتلقونها من أكثر من مصدر؛ ما يضعهم في حالة ملتبسة يضطرب معها العقل دون فرصة مثالية لتحديد خياراتهم؛ لأن الحوار مفقود ولا يوجد من يبحث معهم تحديد الأفضل.