يشبه ريجيس دوبريه الثقافة بالهدير القادم من أعماق التاريخ. فهي بالفعل حاوية لا مادية هائلة تتوارثها الأجيال عبر العادات والتقاليد والتلقين والتدريب والتوجيه. وبالتالي فهي ثروة مشتركة متاحة لكل فرد من أفراد الجماعة. بمعنى أنها رأسمال ثقافي ينبغي توزيعه أو النهل منه بحرية. بدون أي تحفظات أو انحيازات. تماماً كما أن لكل فرد حقه في الثروات المادية. ولكن الملاحظ أن الفرد في مجتمعنا لا يحظى بما يكفي من الثقافة إما لأن هناك من زهّده فيها. أو لأنه تنازل عنها طمعاً في الماديات. أو بسبب التنشئة الاجتماعية. أو نتيجة ظروف تنموية وهكذا. وهو ما يعني أن نصيبه من الثقافة أقل مما ينبغي. وبالتالي فإن حظوظ استواء آدميته أقل. هذا الاختلال في التلقي والبناء الثقافي لا يجعل الفرد مرتبكاً في طريقة ملبسه وأكله وكلامه وتسريحة شعره ومجمل سلوكه وحسب، بل ينزع عنه بعض خصائصه البشرية. لأنه لا يستقبل من الآداب والمعارف والفنون ما يرقى بذائقته، وما يمكّنه من جس الوجود بمنظور إنساني. وبالتالي ينزع عنه الصفة الاجتماعية. وقد يتحول بفعل الجفاف الثقافي إلى وحش يرفض التعايش مع الآخرين ويهجس بتصفيتهم من الوجود. لأن اكتساب الآداب لا يتحقق بكثافة المواعظ ولا بالتعليم المدرسي ولا بالشعارات الطهورية. بل بمراكمة رأس المال الثقافي الفردي، واختباره داخل مستوجبات الحالة الاجتماعية. من خلال التجارب والحوارات والمطالعة والرغبة في رفع منسوب الآدمية. ولكن الملاحظ أن الفرد في مجتمعنا قد تعرض لرضة نفسية جعلته ينكفئ على جماعته، ويتردد أو ربما يمتنع عن تقاسم ما يجود به مستودع الثقافة الإنساني الزاخر بكل ما فكر فيه الإنسان وأحسه. حيث يعيش معظم أفراد مجتمعنا في غيتوات ثقافية تقتصر على ما تبتغيه الجماعة بمعزل عما تستوجبه اللحظة من انفتاح وتواصل إنساني. وعليه، يشتد عصب الجماعات ويتعزز انغلاقها. إذ يلجأ الفرد، بتحريض من الجماعة، إلى البحث في تاريخ الفئة وابتكار أدوات جديدة لمحاججة الآخر وقهره بالأدلة المعاد إنتاجها بمقتضى ضرورات التجابه التي صرنا نلمسها في أدق تفاصيل يومياتنا. إذ تتفانى كل جماعة في تهشيم رموز الجماعات الأخرى والطعن في إرثها الثقافي. إن الفرد الذي بمقدوره توظيف رأسماله الثقافي الفردي لخدمة الجماعة التي يتحدر منها وينتمي إليها لا يعيش بالضرورة في رحابة الفضاء الثقافي. فهو يكرس قيم التفوق والغلبة والاصطفاء والطهورية بموجب تأويلات استخدامية للمعطى الثقافي الكوني. وبالتالي فهو يقوي الرأسمال الاجتماعي لجماعته. لأنه غير قادر، أو ربما لا يمتلك الرغبة لتحويل ما تحصل عليه من ذخيرة أدبية وفكرية وفنية إلى رأسمال نقدي، يجسر بموجبه الفراغ النفسي القائم بين الجماعات. لذلك يُنظر إلى المثقف المنذور لتصعيد جماعته كعبقري من عباقرة السير في الوحول. لأنه يتغذى على أوهامها ولا يستطيع أن يرسم درباً خارج إطار تلك الثفافة المنغلقة. لا يمكن لمؤسسة ثقافية أن تتحكم تماماً في التوزيع العادل للثقافة. وليس بمقدورها أن تفرض على الناس زيارة المتاحف ودور السينما ومعارض الكتب ومراكز البحث والمكتبات. ولكن باستطاعتها أن تهيئ الأرضية التي تكفل للجميع الوصول إلى مصادر الثقافة. كما يتوجب عليها إيجاد منصات مشتركة لاقتسام المستودع الثقافي الإنساني، الكفيل ليس فقط بتأهيل الفرد للتماس مع كل ما هو إنساني، بل الحد من فاعلية البؤر الثقافية للجماعات التي تجيد تصنيع رموزها برأسمال ثقافي فئوي انعزالي يهدد فكرة الوجود الإنساني المشترك. كل ذلك الارتباك في توزيع الثروة الثقافية، وعدم تحريض الفرد على تحصيل نصيبه منها، بقدر ما يتسبب في إنتاج أفراد على درجة من الهشاشة الفكرية والأدبية والأخلاقية، يؤدي إلى ظهور فصائل تجيد الاستخدام الاجتماعي والأيدلوجي للثقافة. إذ بمقدورها تحويل الثقافة كمكتسب إنساني إلى أداة هيمنة وتوجيه. وبالتالي يمكنها احتياز مواقع السلطة. وهذا هو ما يحدث اليوم في مجتمعنا عند مجمل الجماعات والفئات والتيارات. فالفرد المنتمي إلى أي جماعة من تلك الجماعات يقرأ الكتب ويرتاد السينما ويشاهد البرامج الإخبارية بل يحمل لقباً أكاديمياً، إلا أن مرجعيته تتمثل في رموز جماعته. وما يكتسبه من علوم وآداب يصب في هذه الخانة الضيقة. لأنه لم يؤسس رأسماله الثقافي إلا ضمن هذا التصور الاستخدامي. ليس في وارد هذا الفصيل من المتعاملين بالثروة الثقافية تحويل ما اكتسبوه إلى قيم تبادلية. على الرغم من قابلية رأس المال الثقافي للتراكم والتحول وتجديد الأذواق بل تحديث الحياة. كما أن قيم السوق الثقافي تدفع معظم المتعاملين بالثقافة إلى استخدامها كأداة للوجاهة الاجتماعية والهيمنة الرمزية واستعلان التمايز عن الجماعات الأخرى. وإذا كانت المؤسسة الثقافية التي تتضاءل سطوتها يوماً بعد يوم في ظل مهبات العولمة لا تقدر على إصلاح هذا العطب الخطير، فإن الجماعات ذاتها مسؤولة ليس عن توسيع هامش تقاسم الثروة الثقافية وحسب، بل دفع أفرادها بقوة خارج أُطرها الضيقة. إذ لا يمكن لإنسان أن يتذوق الفنون والآداب ورفع منسوب آدميته إلا إذا أخذ نصيبه المفترض من ذلك الهدير القادم من أعماق التاريخ.