ما كان الشاعر الصديق أحمد الملا ليختار عنوانا أكثر ملاءمة لكتابه من (علامة فارقة) ليعبر عنه ويصفه كشاعر مبدع ومختلف، وإن كان لم يقصده هو (كما سنكتشف حين نقرأ النصين اللذين يحملان هذا العنوان) بالمعنى الذي نقصده نحن. فأحمد الملا، وعبر تجربته الشعرية الممتدة عبر ثلاثة عقود من الزمن أو تزيد، أحد علاماتنا الشعرية الفارقة التي تركت ولا تزال ترسم آثارًا بارزة في المشهد الشعري المحلي والخليجي، وعلى امتداد خارطة الوطن العربي. كان أحمد منذ بواكير تجربته بين أبرز الأسماء المحلية التي توجهت بكامل طاقتها الفنية وملكتها الإبداعية لكتابة قصيدة النثر التي كانت تعاني من التهميش المضاعف والعزلة المضاعفة إن صح التعبير؛ فهي لم تكن محاربة ومنبوذة من قبل التيار المحافظ الرافض لتمثلات الحداثة فحسب، بل وحتى من قبل طيف واسع من داخل المؤمنين بالحداثة والداعين لكتابة نص شعري جديد ومغاير وخارج عن النسق القار والمألوف. وقد جاء فوزه بجائزة الشاعر الراحل الذي أحبه محمد الثبيتي هذا العام تتويجًا لمسيرة شعرية حافلة وغنية وجديرة بدراسة أبعادها واستجلاء ملامحها و«نكهتها» التي ميزته وتفرد بها بين أقرانه ومن تلاه من أسماء شعرية واعدة. الثيمة الأبرز والأكثر حضورًا في مفاصل المجموعة الشعرية السابعة في مسيرة أحمد الملا هي الطفولة وتجلياتها، حيث يأخذ الشاعر بيدنا لنراقب "الطفل الذي ذهب في رحلته مبكرا/ وعاد بالدهشة/ تتطافر من يديه/ وعيناه تبرقان مما رأى". الطفل الذي "يحتمي بالظلام ويحميه". ولا يكتفي الشاعر بالعودة لمرابع الطفولة الأولى بل يذهب إلى ما قبل ذلك، إلى المرحلة الجنينية، إن صح التعبير، في نصه المدهش (كنت سمكة)، حين يعيد تعريف علاقة الإنسان بالماء الذي يُخشى عليه من الغرق فيه؛ إذ يذهب لمخاطبة الإنسان بقوله: "الماء لم يبتكر الغرق/ ولم يحبس الهواء/ أنت الذي تنكرت للتنفس/ أيها الغريق الجاحد". فهو ، أي الإنسان، يقضي أشهره الأولى من الحياة سابحًا في ماء الرحم كأي سمكة إلى أن ينزع منه وتقلبه الحياة على رأسه وتلطمه "بقبضتها في الظهر" ليفقد "طعمه إلى الأبد". في النص الذي يحمل عنوان (حجر طائش)، يحدثنا الشاعر عن حجر يرافقه أينما مضى، ويحاول أن يعرفنا عليه، بل أن يعرفه أكثر، فهو حجر، كما يصفه الشاعر: "لا شبيه له/ يتفلت من بين أصابعي/ طائش ولا يهرم". ويحلو لي هنا أن أقترح وأزعم أن الحجر الذي يعنيه الشاعر هو حجر الشعر الأشبه بحجر الفلاسفة. فكما أن حجر الفلاسفة "الأسطوري" يحيل المعدن إلى ذهب، فإن حجر الشعر يحيل تجارب الحياة، وكلمات اللغة التي فقدت بكارتها منذ ما لا يحصى من الأزمنة إلى شعر خالص مرادف لكل ما هو مدهش ومختلف عن المألوف والمطروق. في أحد نصوص المجموعة اللافتة (بوسطن..طفل تائه)، وهو أطول نصوص المجموعة، يحشد الشاعر عددا كبيرا من المشاهد والمشاهدات، ذات الصلة بالإنسان أولا وبالطبيعة تاليًا، بعين سينمائية (وهو المولع بالسينما) مبهرة في دقة التقاطها لتفاصيل قد لا يأبه بها ولا يلتفت إليها من لا يملكون مثل تلك العين التي لا تكتفي برصد الأشياء بل تنفذ إلى ما وراءها. ولعل هذه إحدى علامات أحمد الملا الفارقة الكثيرة التي حاول تعداد بعضها في كتابه.