ما زلت أستحضر اللحظات بعد وصول الخادمة «ميري» الفلبينية للمطار ودهشتها من ترحيب ابنتي وشراء وجبة لها من ماكدونالدز، بل الدهشة الأكبر حين أعطتها زوجتي ملابس جديدة للعيد وبعض المال غير راتبها، وحال هذه الدهشة ربما تسمعه من أحاديث كثير من المبتعثين في أمريكا وأوروبا في أيام الأعياد أو المناسبات ومشاريع البوفيه المجاني، وهذه ربما إشارة الى أن الدول المادية والنفعية لا تعرف قيمة إلا بمقابل، لذا مؤسسات الغرب المصلحية ومن يعيش في محيطها يلحظ دهشتها وأنها تتفاجأ من مشاريع التكافل المجتمعي، وكيف يعطي الإنسان بلا مقابل؟ وهي سّر من أسرار انتشار الإسلام اليوم، ولعل زيارة واحدة لمراكز الجاليات وسماع دورها الرائد يكشف من ذلك الكثير. من هنا أجد عنوان مقالتي يعود بالتاريخ ليعبر صارخا اليوم عن حالة وسلوك تربت عليه المدرسة الغربية النفعية فهي ليست حالة يهودية فقط بل وصف يكشف ويعري من يسير وراء المركب اليهودي المنفعي، والتاريخ يبرهن اليوم أن الغرب اليهودي ما زال يخضع كل فلسفته وإعلامه واستراتيجياته لتكريس قدسية المادة، ذلك المعنى الذي كشفه القرآن فقال واصفا حالهم: «وأشربوا في قلوبهم العجل» أي حب العجل، فالقرآن بإعجازه صوّر أن دماءهم وخلاياهم ونفوسهم قد تشربت حب العجل- رمز المال والمصلحة الفردية- وليس بغريب في الوقت الحاضر أن تنعكس سياستهم وعلاقاتهم حتى ضحكاتهم بهذه الصبغة التي يريدون أن يهشموا بها خصائص النفس البشرية، وأن يتلاعبوا بالقيم في أطر العرقية اليهودية وغرور وسمهم بالشعب المختار والدم المقدس والمعنى الذي وصفه الله سبحانه: «وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه»، ولعل هذا البعد الآني والأناني والعفن البراجماتي هو في حقيقته عملية استمرارهم في غسيل مخ يغزو عالم السياسة وعالم الخلق وعالم ما تبقى من الطهر الإنساني والفطري، بل يغزو الأسرة لينتزع الفكر البشري والنفس الإنسانية كل خصائصها الإنسانية التي تميزها عن عالم الحيوان، وإن منطق التغني على وتر المصلحة يدمر في الإنسان كل أبعاد التميز الأصيل، فالمجتمع الحيواني ومن أجل تحقيق ذاته وحياته وبقائه وضمان طعامه ومعاشه مستعد أن ينسف ربما كل جميل ويقضي على كل بناء قويم، فلا أشواق ولا روح أو أخلاق أو قيم سوى تحقيق مطالب الذات، فما الذي سيبقى من الإنسان إذا تحول من حالته الإنسانية إلى مستنقع الأنانية، وما الذي يبقى من جمالياته إذا أصبحت كل خطواته ونظراته ونشاطاته صوب مصالحه الخاصة، فمجتمعنا الحالي ما زال يدفع ضريبة التقدم في هذا القرن الذي تبلورت مساعي البشرية فيه إلى ثورة واحدة اسمها المصلحة «interest». لذا فالتجرية الإنسانية تتشابه مع نمط المجتمع الحشري كالنمل والنحل كونه مجتمعا ومع ما فيه من تنظيم مبدع وتخطيط متقن وعمل منتج وحركة دؤوبة إلا أن الدائرة المحيطة به هي قاعدة لا شيء وراء المصلحة. لذا ها هي اليوم قوى المصلحة من روسيا وإيران وقوى المادة الأمريكية والصهيونية تمد أذرعتها لتتقاسم الكعكة العربية بعد محاولة تقسيم المتاح حاليا مستخدمة لتبرير مواقفها كل ما تملكه من قوة السلاح القوي، والجدل المنطقي والقدرة على التلون بما يحقق مكاسبها الشخصية وأهدافها الذرائعية «المصلحية» وضمان ديمومتها بضرب كل ما اعترضها في الطريق أصيبت حياة الإنسان بهزة عنيفة حولّت الإنسان من فلك الإنسانية المكرم إلى علم الحيوان الشرس حتى فقدت الحياة طعمها، ولعل الأزمات المالية العالمية التي سرقت المدخرات، وزادت الانتكاسات أحدثت تحولا خطيرا في مجرى التجربة البشرية، فكم هم الذين فرطوا بالقيم الروحية، وداسوا على قيمهم الأدبية والأخلاقية، إذ المشكلة أن بعض أفراد مجتمعنا والذين فرّت القيم الروحية والأخلاقية منهم أصبحت أغلب نظراتهم وسلوكياتهم وتعاملاتهم تخضع لقانون المصلحة، الذي حينما انتشر نشر معه مثلا الرشوة وسماها هدية، وقمع النصيحة وسماها فضيحة، ناهيك عن الحقوق التي تضيع أو تباع أو تبخس أو تؤجر رجاء مصلحة معينة أو التقديس لأصحاب المال والجاه والارتماء حولهم رجاء مكسب شخصي أو القفز على الكراسي، فدوائرنا الحكومية ومؤسساتنا التعليمية وعلاقاتنا الاجتماعية حتى مجالسنا الثقافية رهينة غبار المصلحة، حتى لغة الإحسان للغير سواء كان فقيرا أو محتاجا لا تخلو من التفكير في ما وراء هذا الأمر من مصالح شخصية، حتى العلاقات الأخوية لم تسلم من هذا الداء الذي ينخر في بناء مجتمعنا. وما من مصيبة تتصدر بوابة عالم الإعلام والسياسة اليوم إلا مصيبة أن تصبح المعاني الإنسانية السوية شعارات فارغة لدى الذارئعيين النفعيين، وأن تصبح الأخلاق الإنسانية خاضعة لمحكمة المصالح التي تقاس من خلالها، وفي موازين المنفعة ترى وتجرب وتحترم، وأن يكون ضحايا القانون وسطوته هم الضعفاء.