ما تأثير مفاهيم الثقافة المحلية في تكوين عقل الإنسان ورؤيته إلى العالم من حوله؟ هذا سؤال قد حيّر كثيراً من الدارسين في حقول الأنثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية. لكن إذا نظرنا إلى الثقافة بوصفها مجموعة من الأدوات الرمزية للتحكم في السلوك، ومصادر المعلومات من خارج الإنسان، فإنها تمدنا بالرابط بين القدرة الفطرية لدى الأفراد على الصيرورة وبين الحالة الفعلية التي يصيرون إليها فرداً فرداً؛ حيث تكون تلك الأنماط الثقافية هي الأنظمة التي توجد المعاني تاريخياً، ومن خلالها يعطي كل مجتمع الشكل المحدد والنظام والهدف والتوجه لحياته. ومن خلال تميز بعض تلك الأنماط - وشذوذها في بعض الأحيان - تنتج أشكالاً مختلفة من التفكير العنصري (التمحور على الذات)، أو الشوفيني (الانتقاص مما لا ينتمي إلى ذلك المحور الذاتي)، أو حتى الكراهية وممارسة الأفعال الشريرة نحو الآخرين المختلفين، بما في ذلك الحروب التي نشأت أساساً من خلال هذا التدرج. لكني سأبقى في هذه المقالة متوقفاً عند ظاهرة يصعب تحديدها، وتتصل في بقعة جغرافية أو أخرى ببعض هذه التصنيفات المذكورة أعلاه؛ وتتمثل في النظر إلى المحددات العرقية أو الجغرافية بوصفها المكونات لجنس الإنسان، وهو ما يعني منطقياً أن من لا تنطبق عليه هذه المحددات لا ينتمي إلى الإنسانية. فقد توصل الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز، وهو أحد الذين تخصصوا في دراسة الجزر الأندونيسية إلى أن الناس في جاوة كانوا يقولون مباشرة، ومن دون مداراة: "أن تكون إنساناً يعني أن تكون جاويّاً". وفي تلك الجزيرة يُعد الأطفال الصغار وأجلاف الناس والبسطاء والمجانين والمجاهرون بالفجور "غير جاويين بعد"؛ أما الشخص الراشد "الطبيعي" القادر على التصرف بشكل مؤدب في المجتمع، والممتلك للأحاسيس الجمالية الرفيعة المتعلقة بالموسيقى والرقص والتمثيل وتصميم الأقمشة، والذي يستجيب للدوافع الدقيقة للروح الإلهية الساكنة في وعي الإنسان المدرك لتراثه، فيُنظر إليه على أنه "جاويّ كامل"، أي إنسان مكتمل الإنسانية، فأن تكون إنساناً لا يعني أن تتنفس فحسب؛ إنما أن تكون قادراً على التحكم بتنفسك، بواسطة تقنيات تشبه اليوغا، لتستطيع أن تسمع مع الشهيق والزفير اسم الذات الإلهية "هو الله". وأن تكون إنساناً لا يعني أن تكون قادراً على التكلم فحسب؛ بل يعني القدرة على التلفظ بالكلمات والعبارات المناسبة في المواقف الاجتماعية المناسبة باللهجة الصوتية المناسبة، وحتى بالأساليب التملّصية المداورة. وهو لا يعني أن تأكل فحسب؛ بل هو أن تفضّل أطعمة معينة مطهوّة بطرق معينة، وأن تتبع آداب المائدة المناسبة للطعام. بل ليس هو أن تشعر فحسب؛ إنما أن تشعر بأحاسيس معنية جاويّة متميزة (وهي أساساً غير قابلة للترجمة: "الصبر" و"الترفّع" و"الإذعان" و"الاحترام"). وهنا إذاً أن تكون إنساناً لا يعني أن تكون أيّ شخص؛ بل أن تكون من نوع معين من الناس، وهم يختلفون بالطبع: فكما يقول الجاويّون: "حقول أخرى، جنادب أخرى". وحتى ضمن المجتمع الواحد، فإن الاختلافات هي محل إقرار واعتراف – فاستكمال مُزارع الأرز مثلاً لإنسانيته وجاويّته يختلف عن الطريقة التي يصبح فيها الموظف الرسمي إنساناً وجاويّاً كذلك. وهنا تذكرت المقولة (أو الطُرفة) التي يقولها السودانيون عن أنفسهم وثقافتهم: "والله لو لم أكن سودانياً، لتمنيت أن أكون سودانياً". لكن من ناحية الوجود الكمي لهذه الظاهرة، فهو ليس قليلاً، وإن كانت درجات تكريسها متفاوتة حسب الحاجة الاجتماعية أو السياسية لحشد قوى إقليم معين إزاء ثقافات مجاورة مغايرة؛ تظهر بالإطلاق أو في تسميات المدن أو الناس والبلدان.