حاولت مرارا الابتعاد عن جاذبيته، والوقوف على عتباته ولكنني لم أستطع، الفن التشكيلي عالم من السحر أحس أن ثمة نقصا ما لا يكتمل إلا به، أقنعت نفسي لأعوام أن الرباط الذي يربطني به ليس رباطي بعالم الأدب، وأن لكل عالم لغته وأدواته ولكنني أخيرا ضعفت واقتنعت بما قاله «ميشيل بوتور» الروائي الفرنسي عندما سئل عما يستهدفه من الكتابة عن الفن التشكيلي وعما إذا كان يعتقد أن ثمة رباطا يجمع بين الكتابة والتصوير فقال: «إنني أسأل نفسي ما الذي يعرفه هذا المصور أو هؤلاء المصورون من أسرار الصنعة لا أعرفه أنا؟ ومن ثم أضع نفسي موضع التلميذ من صانعي اللوحات إلى أن أتعلم وآخذ كفايتي، ويالروعة ما اكتشف.. فأنا اذن أكتب عن الفن التشكيلي كي أصعد إلى منابع للالهام تظل خافية الى ان اتمكن من ايضاحها لقرائي.. كيف يمكن ان يكون مجال التصوير غريبا على الكاتب؟ ان ناقد الفن ذاته الذي يغار كثيرا من الشاعر او الروائي الذي يتعدى على مملكته ما هو الا كاتب متخصص.. ان اكبر نقاد الفن ومؤرخيه هم ايضا كتاب من الطراز الاول، ولا ننسى في هذا المقام «بودلير» و «دستوفيسكي» الذي قال لنا عن مصور مثل «هولبين اوكلود لورين» اكثر بكثير مما قاله المتخصصون ويقول «بوتور» ان التصوير يهمنا جميعا وليس هو بأي حال من شئون التجار والمقننين فحسب.. يمكن للتصوير ان يمضي بغيري، اما انا فلا استطيع ان امضي بغير التصوير». لقد عبر بوتور عما بداخلي... فثمة علاقة قوية بل ارتباط شديد بين الفن والادب، هناك مدارس ادبية ابرزت تلك العلاقة بشكلها الحميمي، منذ الكلاسيكية والرومانسية مرورا بالرمزية والانطباعية والتعبيرية وتأكيدا عند السريالية.. ان اروع ما كتب عن الفن التشكيلي كتبه ادباء.. اليس من الاجدر بنا الآن ان نقترب من عالم نحن احق برؤيته والكتابة عنه؟ لقد حلمت ان اصور الاساطير التي قرأتها او سمعتها حلمت ان اعطي لكل بطل ولكل مكان بل ولكل لحظة لونها الذي تخيلته وشكلها الذي وثقت به، لقد حلمت ان يكون البحر طائرا جميلا وأوراق الشجر تنحل في صمت المساء والجبل يفيض انسانية والقمر ينفتح على صدر الصخر، والتاريخ بحرا من الالوان لا الدماء، لم استطع ان احقق الحلم ولكن شاهدته يتحقق في اعمال فنية عديدة، وجدير ان اكتب عن هذه الاحلام عن كيفية تحققها ان اكشف اللامرئي ما استطعت فلنقترب من عالم الفن انطلاقا من عالم الادب ولنؤول ما شئنا ولكن بصدق. يقول الكسندر اليوت في كتابه «آفاق الفن»: «ان مؤول الفن اذا حاول جهده ان يتكلم بأمانة واخلاص معتمدا على تجربته الشخصية وحدها، فانه سيكون، على الاقل، صادقا من جوابه. دع الاخصائيين يتذمرون وينقنقون فخرائطهم متباينة وهي تؤدي الى المعلومات لا الى التجربة، وسدنة العلوم ليسوا بسدنة الفن». الخيال عالمنا المشترك ننطلق منه ونرتشف من سحر رحيقه والفن ملك لنا يهيئ لنا الحشود المتألقة من ادراكات البصيرة لنضع تلك الادراكات في اشكال من الكلمات فلنأخذ دورنا ولنصنع من اللوحة لونا جميلا يقود الملتقي الى عمق الاشكال وابعاد الاعمال. اننا كأدباء احق بالكتابة عن الفن، بقراءة العمل التشكيلي بسبر اغواره، باستنطاق خطوطه، والوانه، فلماذا نبتعد؟ لقد ساهمنا بابتعادنا في انغلاق الحركة التشكيلية وتباطؤ سيرها، ان الواقع التشكيلي المحلي والعربي بحاجة الى التلاحم معه فباستطاعتنا ان نحركه وان نعيد له مساره او نعدله فلماذا لا نقدم على ذلك؟ اهو الخوف من الخطأ أم التجاهل والتناسي الذي سرى في واقعنا رويدا رويدا، ان تلك دعوة وقد بدأت انا بارتكاب الحماقة الاولى منذ وقت طويل وان كانت لي سابقة غيرها واشعر اني توقفت ولذا احفزكم واحفز نفسي نحو ذلك..