في الوقت الذي تتزايد فيه المطالبات بإعادة النظر في اختبار قياس نظراً لتدني درجات آلاف الطلاب والطالبات فيه، وفر المركز الوطني للقياس والتقويم اختباراً آخر اسمه التحصيلي لمراجعة جودة التحصيل في آخر سنوات الدراسة من المرحلة الثانوية، ولا صلة له بمدى سعة معرفة الطالب ورحابة آفاق درايته في جوانب كثيرة، بل جاء لصيقا بالمقررات الدراسية ومحتواها، ربما ليتماشى مع سياسة التعليم بالحفظ.. والتي تسود المشهد التعليمي بشكل كبير. عموماً، الجمهور لم يرض عن قياس، كما لن يرضى الكثيرون عن الاختبار التحصيلي استناداً إلى معاناة التعليم العام من معضلة الجودة ودخولنا كمختصين في متاهة (الصدق والثبات) لهذه الاختبارات، وهي متاهة يصعب الخروج منها نظراً للظرف العام المحيط بالاختبارين وكذلك بسبب معاناة التعليم العام من مشاكل جذرية أعيتنا الكتابة فيها. ولكن السؤال المطروح اليوم هو: إذا أحرز طالب درجة تتجاوز الثمانين في اختبار «قياس»، وقد تتجاوز التسعين في أحيان، وتم قبوله في التخصصات العلمية، فإنه يمر بمقصلة أخرى تسمى السنة التحضيرية. ولو أخذنا الجدوى التقييمية لاختبار قياس وما حققه بعض الطلاب من درجات كبيرة فيه (طلاب متميزين بسعة اطلاعهم وتعدد معارفهم) فمن الأجدى والأفضل للجامعات، بعد قبول الطالب في التخصصات العلمية والهندسية، أن تقابله لدقيقة واحدة وتسأله: أيهما تفضل العلوم أم الهندسة؟ لو قال الهندسة، فمن الواجب البدء معه بمواد تحضيرية تخص الجانب الهندسي تحديداً وليس مواد كالرياضيات المتقدمة باللغة الإنجليزية وريادة الأعمال واللياقة البدنية وما إلى ذلك! لماذا تلجأ جامعاتنا، عن دون قصد ربما، لتشتيت الطالب وإبعاده عن دراسة مبادئ أساسية ضمن شغفه ورغبته؟ إن كنا جميعاً مدركين أن قرار السنة التحضيرية بيد جامعاتنا وإداراتها العليا، فلماذا الإصرار على تجاهل نتائج اختبار القياس؟ ألم يحصل الطالب على نسبة تجاوزت التسعين في الثانوية العامة، وألم يحصل على درجة تخطت الثمانين في القياس؟ فلماذا الإصرار على إقحامه في السنة التحضيرية وتلقينه مواد لا تشكل إضافة حقيقية لمعارفه السابقة (باستثناء اللغة الإنجليزية)، كما أن هذه المواد الدراسية لا تتلاءم مع مرحلة صدمة الانتقال من بيئة الثانوية إلى البيئة الجامعية! وفي هذه المرحلة تحديداً على الجامعات أن تفكر في تحويل قاعاتها إلى بيئة جاذبة عبر تدريس «كورسات تأسيسية» في التخصص الذي يحلم الطالب بدراسته حال تحقيقه لجميع الاشتراطات. ما الذي ينتج عن كل ما يحصل اليوم؟ في الغالب يكون هناك ضحايا كثر! فكم من حالم بالتخصصات الهندسية لم يدرسها، وكم من حالم بالتخصصات العلمية الدقيقة لم ينلها! ليدخل الطالب في دوامة جديدة من دراسة تخصص تم تنسيقه عليه عبر الجامعة نفسها (لا صلة له بأحلامه وتطلعاته) فتكون النتيجة إكمال المشوار على طريقة تحصيل الحاصل.. أو الانضمام إلى صفوف المتسربين من الجامعات والذين وصلوا اليوم إلى نسبة من الخطأ تجاهلها! من ناحية تنموية، وهو واجب الجامعات الحكومية تجاه صناعة الإنسان وتوفير المختصين المطلوبين للنهوض بالمرحلة، نحن أحوج ما نكون للعشرات من المتخصصين في الهندسة على اختلاف فروعها، كما أننا أحوج ما نكون لخريجي التخصصات العلمية الدقيقة. البلد يضج بمشاريع تنموية لا نريد لها أن تنتهي إلى استقدام وافدين يشغلون جميع وظائفها الهندسية والعلمية بسبب «سنة تحضيرية»! باختصار أقول: السنة التحضيرية في وضعها الحالي هي أشبه ما تكون باختراع أكاديمي يميز «خصوصيتنا» الجامعية التي طال الانتظار في رجاء حضورها. وبنظرة سريعة إلى عدد من تهشمت أحلامهم في الالتحاق بالتخصصات التي يعشقونها ويحلمون بها، أظن أنه من الواجب اليوم البدء في تطبيق مفهوم المواد التأسيسية ذات الصلة المباشرة بالتخصص الذي يختاره الطالب، إلى جانب مبادئ أساسية في اللغة الإنجليزية. تصحيح الوضع ليس عيبا أو خطيئة.. بل هو مبادرة إيجابية ستساهم مباشرة في إنقاذ مستقبل التنمية في وطننا جميعا، ومستقبل الإنسان المتعلم فيه.