إذا كانت الثقافة في أحد تعريفاتها، تمثل حائط صد ضد الفكر المتطرف الذي يؤثر وينال من قيم وثوابت وترابط المجتمع، فالأولى بالمثقف أن يكون أحد دعائم هذا الحائط بفكره وإبداعه ورؤيته وعلاقته بالمجتمع، إذ عليه أن يضئ الطريق للمتلقّي ليكتشف من خلال رؤيته منابع التطرف الفكري ومكامن الخطر ومحاولات زرع الفتن عبر ثقافات وافدة، تعمل علي النيل من وحدة وترابط المجتمعات. إن ثمة دورا كبيرا يتعدى الشجب والصمت، والتصريحات الصحفية،على المثقف أن يقوم به ليس فقط عبر وسائل الاعلام ولكن عبر وسائل أخرى منها الابداع واللقاءات والمنتديات والتعليم وغيرها، وبأسلوب يتشكل وفق رؤية المخاطب الذي يتلقى الرسالة التي يبثها المثقف، والتي يجب أن تعمل علي تفككيك الأنساق الموهومة، وتعيد الاعتبار للحدث كحدث مستقل، إذ أن هناك علاقات وسلسلة موهومة من الأحداث يتم بناؤها، ويعمل البعض من مثيري الفتن والفرقة على استثمارها أيديولوجيا، لتكون عواقبها وخيمة على مشكلة العنف الطائفي. إن أبرز الخطابات التي يجب أن يتصدى لها المثقف، خطاب الكراهية الذي يجب علينا جميعا أن نقوم بكشفه وتجريمه. وأيضا الكشف عن خطابات من يحفرون تحت التاريخ للبحث عن منفى يلم شتات أفكارهم، ومشاعرهم! التاريخ منجم أفكار، وأيضا منجم حقائق اكتملت لها عوامل بروزها وتموضعها، ولم تعد تقبل التدخل بالتعديل أو الإلغاء، إذ ليس في استطاعة أحد أن يمحو أو يعدّل صفحات التاريخ، كما أنه ليس في استطاعة أحد أن يجلب من الماضي واقعة ما، ليدفع بها إلى الحاضر. كل ما نملكه إزاء التاريخ أننا ندين له بالحقيقة، والأفكار، وهما مقومات الوجود، ولكننا في جميع الأحوال نضع التاريخ، فالإنسان هو الذي يكتب التاريخ، ويصنع وقائعه. وإذا كان الهدف من الحفر تحت التاريخ، هو اكتشاف لما يحدث وحتى يتم التواصل المعرفي فإن الحفر ضرورة.. أما إذا كان الهدف أن ندفن أنفسنا لنعيش تحت ركام الأحداث والأفكار الماضية فهذا خطأ ضد التاريخ لأننا سنتحول من صناع للتاريخ إلى عبدة في محرابه. وأعتقد أن منطق الحلم وإشراقات المستقبل ستكون بعيدة المنال. إن التاريخ نفسه يدفعنا إلى الحاضر ومن ثم إلى المستقبل، إننا يجب أن نقرأه جيدا لنعرف متى نحفر ومتى نتوقف عن الحفر، وإلا وقعنا في أخطاء ومكامن خطرة كتلك التي نعيشها الآن، وهذا دور مهم للثقافة والمثقف ابتعدت عنه لفترات. هناك من يتشبه بشخصيات من التاريخ رغم اختلاف الظروف والمواقع وتقمص دورها دون وعي، وهذا خطأ لن يغفره التاريخ. إن أحدا لا يمكن أن يسبغ على نفسه دورا ليس دوره، فليس هناك خالد بن الوليد آخر نعرفه غير خالد بن الوليد، وليس هناك عمر بن عبدالعزيز آخر كما أنه ليس هناك صلاح الدين الأيوبي آخر. إن منطق العلم يقول إن الشيء لا يمكن أن يكون إلا نفسه، فما بالك بمنطق التاريخ الإنساني؟! وهنا أيضا على الثقافة والمثقف أن تكشف وتعرّي من يقومون بذلك تحت أي مسمى واتجاه أي هدف كمحاولة ما يقوم به من يسمون أنفسهم بالدواعش. إن الواقعية ومنطق التاريخ يفرضان على كل إنسان أن يكون ذاته لا غيرها، أن يلعب دوره دون تشابك بأدوار شخصيات أخرى طواها التاريخ صنعت لنفسها مجدها أو جللت تاريخها بالسواد. وإن ما نعايشه الآن من فوضى التشبّه بشخصيات من تاريخنا الذي نقدره، بغرض التأثير على عواطف العامة وجذبهم إلى مواقع ومناطق لن يدركوا خطورتها الآن، إنما هو حفر تحت التاريخ بقصد الدفن تحت ركامه دون وعي بالحاضر وآفاق المستقبل، وعلى المثقف أن يعري ذلك. فمن يخطئ أو يغامر ضد التاريخ، عليه أن يتحمّل وحده مغبة ذلك الخطأ، ويتحمّل الحساب في النهاية، ويبقى علينا أن نوضح خطر الانسياق وراء تلك الادعاءات، وأن نكشف عن نواياها التي تريد أن تدفعنا في النهاية خارج التاريخ. إننا لم نعرف من تاريخنا، أن دعوة للجهاد ارتفع صوتها من أجل أن يقتل المسلمُ المسلمَ، أو أن تغزو الفرق الاسلامية الدول الاسلامية من أجل احتلالها ونهب ثرواتها دون منطق أو عدل، أو أن يفجر أحد نفسه في مسجد أو مجلس أو تجمع لأبناء وطنه.. وإن كان ذلك قد حدث، فالمنطق ظالم.. والتاريخ لا يعيد نفسه. فهل لنا أن ننبش التاريخ جيدا، لنبحث عن منفى يلم شتات أفكارنا ومشاعرنا، ويدفع بنا إلى منطق لتفسير ما يحدث من حولنا الآن، ويكشف لنا عن اتجاه فوضى استدعاء الشخصيات من تاريخنا الإسلامي وتقمص دورها، وأيضا دعوى جهاد لا ندري ضد من؟. إن ذلك أمر يجب على الثقافة والمثقف التصدّي له، فالأمر لا يخص رجال الدين وحدهم، ولكن يخص المثقف أيضا، وعلي الكل أن يؤدي دوره لنبتعد عن هذا الطيف المؤلم الذي ألم بنا ويحيطنا.