الإصلاح الديني والاجتهاد المؤسسي المتعلق بتجديد الفكر الإسلامي التقليدي في عصرنا الراهن لم يحقق نجاحا منهجيا يستحق الذكر، رغم ضرورته الملحة ورغم ما طرح حوله وبذله بعض الساسة للدفع بعجلته، إلا أنه متعثر لأسباب كثيرة أهمها غياب إرادة معظم القيادات الدينية عن القيام بذلك الدور. فالإصلاح الديني يقوم في الأساس على عنصر مهم هو المنهجية المتمكنة من أدوات الاجتهاد وآلاته، الواعية بواقع الحال المستقلة عن التبعيات العمياء المعتمدة على الوحيين مرجعا فصلا عند الاختلاف والاستلال على الصواب بالحجج والبراهين الصحيحة شرعا وعقلا. وذلك لم يكن متوفرا عبر نظام مؤسسي رسمي أو غير رسمي ولا عبر أفراد قادرين على تحمل مسئولية هذا الدور التعليمي المؤصل بجدارة تلامس واقع العصر. لقد تولد عن ذلك عجز حقيقي تتعسر معه المحاولة في القيام بالمهمة إن لم تتعذر، فضلا عما تواجهه دعوة الاجتهاد والتجديد من صدود لتوجس طائفة من قيادات الفكر الديني التقليدي ومؤسساته منها، تغليبا لهاجس الخشية من السعي بتغيير ثوابت الدين في المجتمع باسم التجديد. لقد أثارت هذه الحالة ضعفا علميا وفكريا كبيرا وندرة في المراكز البحثية المؤسسية المتخصصة حتى في المؤسسات الأكاديمية على المستويين الرسمي وغير الرسمي وضعف الموجود منها. فوسع ذلك دوائر الخمول والضعف والجمود والتكلس في الساحة الفكرية والعلمية، وانعكس أثر ذلك العجز حتى على النخب فضلا عن عموم المجتمع. وفي المقابل كان الضغط المتصاعد من قبل تيارات الإسلام السياسي والجهادي يكتسح المجتمعات من خلال استغلال منابر الساحة الدعوية واستغلال ثورة الاتصال والتقنية وآلياتها حرصا على استقطاب طوائف المجتمع بكل طريقة ممكنة لتوظفيها في أغراضها السياسية البعيدة عن حقيقة الدين ومعانيه وقيمه وإن بدت بلباس الدين. لقد أدى العجز عن النهوض بمهمة الإصلاح الديني في المجتمع وتأخره إلى إعطاء تيارات الإسلام السياسي والجهادي الفرصة للسيطرة على عقول كثير من الشباب والعامة فتفاقم الداء، كخُرَّاج لم يعالج في الوقت المناسب حتى انفجر في جسد صاحبه، وصار مستعصيا على الجراحة التقليدية البسيطة معالجته، فارضا على الطبيب استبدالها بجراحة أصعب وخسائر أكبر. هذا حالنا مع الإرهاب اليوم، فبعد أن كان أنماطا مبعثرة من التحزبات والأفكار الخائفة المتسترة، توسعت دوائره وطموحاته وآلياته وإمكاناته، حتى أصبحنا نواجه اليوم تكتلات مرتبة في عالم مغاير لما مضى تطورت فيه وسائل الاتصال وتقنياته وآلياته ومعارفه العلمية، وتكنولوجياته الراقية، وتنامى انتشارها إلى مستوى مذهل، تحولت معه سلاحا تدميريا في أيدي المتطرفين، الذين يجيدون توظيف منتجات الحداثة في النيل من المجتمعات، بل استقل منهم من استطاع بكيان ذاتي أصبح يهدد كل من حوله فضلا عن تشويه الإسلام وعدله. إن المتطرف اليوم لم يعد تقليديا منطويا، يخشى الحداثة، ويتوجه صوب الماضي في واقعه، بل هو متطرف ثوري محترف، خرج على التقليد الديني حتى في متنه الرئيس الذي لم يدع أبدا محورية الدولة في الدين، ولم يقل قط بالخروج على الحاكم سواء الشرعي بحسب البيعة، أو حتى المتسلط بقوة الأمر الواقع وإن جار في حكمه. لقد أصبحت المشكلة اليوم ذات آثار فتاكة ومضاعفة، ذلك أن المجتمعات التي امتلكت من التكنولوجيا ووسائلها أرقاها، ظلت بعيدة عن الإفادة منها في التعليم أو الصحة أو الزراعة أو الصناعة أو الأمن أو ما ينفع الانسان في أوجه الإصلاح والتنمية المختلفة، إنما أبدعت وتفننت في استخدامها في الفساد والتدمير. فكأنما وضع البنزين بجوار النار، فلنتخيل نتاج ذلك، بل فلنطالعها كل يوم بيننا، وحولنا، في عمليات القتل وحفلات التدمير. إن المجتمع اليوم بحاجة للتنوير العقلي النوعي الواعي المؤسس للمعرفة الدينية والدنيوية الصحيحة وتعميق المشتركات الإنسانية مع التمسك بمحكمات الدين القطعية في الحلال والحرام اختصارا لزمن الاصلاح الديني الذي قد يحتاج لعقود لمعالجة مشاكل موروث التراث المتداخل واختلافاته. * مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة مكة سابقا