المقال الرابع عن السطوح، يتشعب الحديث، يأخذ مسارات لا تخطر على البال، لكنّه حديث السندباد العربي، في لياليه الفواحة، برائحة الشار والكادي، تنتشر النكهة، تتأصل معالم التكوين، بها يطل سطوح الأرض العربية، على جميع أنحاء العالم، كنتيجة أصبح العالم في سباق للاستحواذ عليه، سطوح مهم في الماضي، والحاضر، والمستقبل، قطّعوه إلى أسطح عديدة، كنتيجة زاد البريق واللمعان، تعاظمت الأهمية. القوة ليست في سطوح العرب فقط، في نفوس أهله أيضا، النفوس العربية سطوح متعدد الاتجاهات، سطوح أرهق الآخر، نزع فتيل صبره، اتجاهات العرب طاردة للعدو، هل نستطيع القول: يا سطوح يا موحد العرب، أجزم بذلك، كنتيجة يسعون أن يكون للعرب شركاء في سطوحهم، هل ينجحون؟! لنأخذ نموذجا مثيرا لسطوح عربي نعرفه، إلى سطوح لبنان التنوع، سطوح مختلف، هكذا وجدناه، سطوح بنكهة العالم أجمع، سطوح بفلسفة، يشرح ركائزه، دستور أغانيه التي نعرف، أصبح للسطوح أمجاد في لبنان، لا عجب أن تجد كل شيء مختلفا، اللهجة النّاعمة، البساطة الرّاقية، التطلاعات الحالمة. الأهم في السطوح اللبناني، ملامح (شنب) رجاله الذين مضوا، (شنب) زاخر بكل صنوف الكبرياء والشموخ، (شنب) يحمل سطوحا على سطوح، (شنب) ملفوف القوام، التحم الشعر ببعضه، شكل قوة وصلابة وتماسكا، (شنب) يقف على سطوحه خيول العالم بشتى أنواعها، لبنان يمثل كل (شنبات) العالم، الشخصية اللبنانية مزيج حضارات، مزيج ثقافات، مزيج لغات، كنتيجة يظهر علينا نتاج سطوحهم، روايات وحكايات نستوعبها، قد لا نستوعبها، لكن يظل لبنان ضمير العرب، لبنان قاموس لضمير العرب ولنجاحه وانتشاره. ظاهرة الست (صباح) اللبنانية كنموذج، عمّرت طويلا في تاريخ الانتظار العربي، توفيت أخيرا، بموت لبناني مختلف، يحزن النّاس مع موت أحدهم، إلا في لبنان، يرقص النّاس وأشياؤهم، ليس فرحا، لكن لتعطيل مشاريع الحزن، في الحاضر العربي ومستقبله، تركت (صباح) وصيّة لبنانية، اختلف العرب حولها، هكذا زادت مساحة شرخ الفهم العربي وأبعاده. كانت (صباح) جزءا من تاريخ الكلام، وحكايات كل سطوح عربي، غنت لكل شيء، إلى أن قالت: [زوجي جندي بالجيش.. أدّيش بحبه أدّيش]، هكذا حظي أحد الجيوش العربية، بأغنية، ساعدت على انتشار الحب بين أفراده، البعض اعتبرها توليفة خرف، البعض اعتبرها خروجا عن الثوابت، البعض مثلي اعتبرها قصة كفاح ونضال، هل كان صوت (صباح) صرخة، حصلت فوق سطوح الأرض العربية؟! البعض يستنكر صوته، فكيف يقبل بصوت (صباح)؟! صوتها عزز الثقة بالسطوح العربي، خلق التفاؤل على سطوح العرب، لمن أراد أن يفهم. تعجبت من الشحرورة العربية، وهي تسأل: [أكلك منين يا بطة؟!]، عندها، ومعها، تحول الأحبّة إلى فراخ بط، فراخ بحاجة إلى رعاية وحماية، من يحمي؟! من يرعى ويدفّئ؟! (صباح) وحدت العرب بجمال صوتها، دورها كان أكبر من تأثير بعض القادة العرب، في زمن نشيد: فوق الخيل.. فوق الخيل، على الأقل عبر مسيرة حياتها، قرابة التسعة عقود من عطاء غذاء الروح، وحدت المشاعر العربية، وحدتها بالصوت والكلمة والنغم، نجحت في بناء سطوح خاص بالعرب. الفن وحّد العرب، توج وحدتهم في اللغة والتاريخ والدم، حقق الفن ما عجزت عنه السياسات العربية، سيظل سطوح الفن بعدا إنسانيا، ينقل مشاعر العرب من جيل إلى جيل، عاش الفن بسمو أهدافه، سقطت السياسة بوحل نتائج أهدافها، كل هذا لأن السياسة ليس لها سطوح عربي واضح، لها غرف مظلمة، لا تسمح بسماع صوت (صباح) وهي تقول: [جيب المجوز يا عبود]. ما زلت أذكر شرائي كتابا لبعض نصوص أغاني (صباح)، في ستينات القرن الماضي، كنت وقتها طالبا في المرحلة المتوسطة، بدلا من ذهابي إلى الرياض، لمشاهدة اللاعب البرازيلي (بيليه)، توجهت بثمن تكلفة السفر إلى المكتبة، اشتريت كتبا عديدة، منها كتاب يحمل صورة (صباح) على الغلاف الخلفي، صورة تُظهر بعض رموز جسد المجد العربي، جسد يمثل سطوح لبنان البهي. كنت طفلا لم يفتن بعد بهذه الأمجاد، لكن كنت مغرما بالصوت والصورة، رسخها تلفزيون ارامكو، القناة (2) و(13) الظهران، كنت أبذر ملامح مستقبلي، كان يأتي صوت (صباح) بالموّال القوي الساحر، يحلق بشخصي الطفولي في السماء، يحملني إلى أعماق الأرض، جذرا جديدا، بحنين يطوي العمر عاما بعد آخر، عمّر قلبي بحب كبير، وأردد معها إلى اليوم: [علبساطة البساطة.. يا عيني علبساطة]. صوت أشبه بالكنز، يزيد مساحة علم الخيال، أحمله (كرمال الحبايب)، يُعمّق في نفسي الارتباط، بكل شبر من الأرض العربية، صوت دافئ، يهز العواطف، ويلمّع العقول، صوت لبيئة المحبّة، صوت يحمل نكهة الهوية، يحمل سطوحا يعزز علاقة الأرض بالإنسان، سطوح يعلن نجاح العلاقة بين البيئة العربية وإنسانها، صوت يكره [البعد والحرمان]، أغنية سعودية استعارتها (صباح) في الزمن البريء. جاء اسم (صباح) من مصر، اكتشفت الحنجرة الذهبية، منحتها مصر الشهرة العربية، ربطتها بالعرب وتجلّياتهم، مصر طوعت الصوت للعرب، لبنان صنع المواصفات للعرب، حتى التكامل العربي حققه الفن. سطوح الفن لا السياسة، جعلت العرب يرددون مع (صباح): [شرفي وأرضي.. بيتي وعرضي]. وللحديث للبقية. * أكاديمي. جامعة الملك فيصل