لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ لعله يلتبس على كثير منا الفرق بين الكفاءة (efficiency) والفعالية (effectiveness) كمفهومين يتعلقان بالإنتاجية أو الأداء في العمل. وقد يسيء كثير منا استخدامهما باعتبارهما مترادفين في المعنى، بينما هما يختلفان بشكل كلي. وإن عرفنا معناهما، فقد يصعب علينا معرفة أهمية وأولوية كل منهما. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن لهذين المفهومين أهمية كبرى في حياة كل منا، وإن لهما تطبيقات حية في حياتنا داخل وخارج مجال العمل. وإن أسبقية أحدهما على الآخر في الأهمية تختلف حسب الظروف والمعطيات. كما أنهما مفهومان قد يتناقضان وليس بالضرورة أن يتفقا. فإذا قلت إن هذا الجهاز أو هذا الرجل أو هذا المنهج فاعل (أو فعّال على صيغة المبالغة)، فإن ذلك يختلف عن قولك بأنه كفء. فالكفاءة تقاس بمقدار الموارد المتاحة من جهد أو وقت أو مال أو غيره التي تصرف من أجل أداء العمل. أما الفعالية فتقاس بنسبة المتحقق من الهدف، بغض النظر عن تكلفة الموارد المستخدمة في إنجاز العمل. فالموظف الكفء هو الذي يستطيع أن يوظف الموارد بشكل أفضل، بمعنى أنه يؤدي العمل بوقت أسرع وكلفة أقل، ولكن ليس بالضرورة أنه يحقق الهدف. فالسيارة التي تستهلك وقودا أقل، هي أكثر كفاءة ولو لم توصلك لهدفك. وقد اشتهر هذان المؤشران في مجال الهندسة الصناعية في بداية القرن العشرين. حين صمم منظرو الإدارة العلمية أمثال فريدريك تايلور وفرانك وَ ليليان غيلبريث ما يسمى بدراسات الوقت والحركة، من أجل رفع مستوى الكفاءة في العمل. كما أن عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس ويبر في نظريته عن «البيروقراطية» قد أشار إلى أن أكثر المنظمات كفاءة هي المنظمات البيروقراطية، حيث ينتظم فيها العمل ضمن مقاييس معيارية. ولكنه لم يقل إنها أكثر فاعلية. وباختصار، فإن الكفاءة هي عمل الشيء بشكل صحيح، بينما الفعالية هي عمل الشيء الصحيح. إذاً هما مقياسان، أحدهما يُعنى بالوسائل والآخر يُعنى بالأهداف. والحالة الفضلى هي أن نسعى لتحقيق الأهداف بأقل الوسائل كلفة متى كان ذلك ممكنا. وفي الآية الكريمة «إن خير من استأجرت القوي الأمين» دلالة على أن الإنسان الكفء والفاعل هو غاية العمل. ولكن في الغالب أن التقتير في استخدام الموارد لا يضمن تحقيق الهدف. كما أن الوصول إلى الأهداف قد لا يتأتى إلا بتكاليف باهظة. لهذا، فإن إيجاد نقطة التوازن الممكنة بين هذين المعيارين هو أفضل ما يفعله صانع القرار. وهناك مترادفات كثيرة لهذين العاملين. فمفهوما الدقة (precision) والصحة (accuracy) يماثلان الكفاءة والفعالية. فلو افترضنا أن أحدا قال إن الكيلوغرام الواحد يساوي 2.2 من الأرطال، وقال آخر إنه يساوي 1.2046 رطلاً، لوجدنا أن كلام الأول أكثر صحة، والثاني أكثر دقة. فالدقة والصحة في المعلومة مطلوبتان، ولكن لو اختلفتا، فالأفضل أن نأخذ بالمعلومة الصحيحة وليس الدقيقة، تماما كما هو الأمر في الكفاءة والفعالية. وهناك مفردتان قريبتان من مفهوم الكفاءة والفعالية، يتفرعان من مفهوم التقييم (evaluation)، وهما التحقق (verification) والمصادقة (validation)، حيث تعني الأولى التأكد من صحة الوسائل أو الطرق المستخدمة (الكفاءة)، وتعني الثانية التأكد من أن الوسائل تقود للأهداف المرسومة (الفعالية). فالكفاءة تعطيك الصورة التفصيلية، بينما تعطيك الفعالية الصورة الأشمل عن وضع المؤسسة. لذلك فإن طبقات الإدارة الدنيا في هرم الهيكل التنظيمي في المؤسسات، تحتاج إلى التركيز على الكفاءة في عملها أكثر من الفعالية، وذلك لوضوح الوسائل التي تؤدي للنتائج المستهدفة. وكلما ارتقينا في السلم الإداري، تصبح الفعالية أكثر أهمية، وذلك لتناقص وضوح الوسائل التي تؤدي للأهداف التي هي همّ القادة. هناك حالات أربع يمكن أن يوسم بها الموظف أو الإدارة أو المؤسسة. أفضلها أن يكون العامل (1) كفؤا وفعالا. وأسْوَؤها أن يكون (2) لا كفؤا ولا فعالا. وبين الحالتين نجد (3) الفاعل غير الكفء و(4) الكفء غير الفاعل. الحالتان الأوليان واضحتان. أما الحالة الثالثة يحصل فيها التطرف في تغليب الفعالية على حساب الكفاءة. ومثالها أن تأتي فرقة إطفاء الحرائق إلى منزل يحترق، فتستخدم كل ما لديها من قوة تطفئ بها النار (أي تحقق الهدف)، ولكنها في الوقت نفسه تدمر كل شيء في المنزل. لكن أخطر ما قد يصيب أي إنسان أو مؤسسة أو وطن، هو الحالة الرابعة التي تُغلَّب فيها الكفاءة على الفعالية، من قبل صناع القرار. لذلك، يوصف الذين يركزون فقط على الكفاءة في العمل بأنهم «مديرون» فحسب، بينما يوصف الذين يركزون على الفعالية وتحقيق الأهداف بأنهم «قادة». لأن المديرين أضيق أفقا من القادة وينشغلون بالأسباب أكثر من انشغالهم بالأهداف. وفي الغالب لا يتحملون نسب مخاطرة تذكر. وهذا يتفق مع تعريف القيادة بأنها هامش مخاطرة. بمعنى أنه من يستحق أن يكون قائدا هو من يتحمل نسب مخاطرة أعلى، ويتقدم بخطى إلى الأمام نحو الأهداف في الوقت الذي قد تقصر فيه خطى الآخرين عن الإقدام. وسوف نستعرض في بقية المقال أمثلة عن الاهتمام في توظيف الموارد على حساب الأهداف. نستطيع أن نرى تغليب الكفاءة على الفعالية في الفرق بين البخيل والكريم أو الفرق بين الجبان والشجاع. فالجبان والبخيل يضنان بالمال والروح في الواجبات فلا يحصدان إلا العار والهزيمة، بينما يبذلها الكريم والشجاع رخيصة في سبيل المبادئ والقيم، فيكسبان شرف الموقف في حياتهما وبعد موتهما. وهناك مثال صارخ على المشكلة التي قد تنتج عن تغليب الكفاءة على الفعالية. فكما أسمع من بعض الأطباء في بلدنا، بأنهم في معالجتهم لمرضاهم يلجأون إلى مبدأ العلاج الدفاعي، بمعنى أنهم يقومون في معالجتهم لمرضاهم باتباع الخطوات والسبل المتعارف عليها، دون الاهتمام بشفاء المريض. فالأطباء هنا يسعون لتحقيق الكفاءة بما يحميهم من أي ملاحقة قانونية، حتى ولو بدا لهم أن الشفاء يتحقق بطريقة غير معيارية، تكاد تنعدم فيها درجة المجازفة. فلو حرصت مؤسسة على دقة حضور وانصراف الموظفين كمؤشر للأداء دون الاهتمام بالإنتاجية، فإن استراتيجية تلك المؤسسة قد تبدو أنها كفؤة، ولكنها قد تكون غير فعالة. ومثال آخر: أن يشكو مريض من مشكلة في ركبته اليسرى، فيقرر له الطبيب عملية بالخطأ في ركبته اليمنى. العملية كانت ناجحة تماماً ولكن في المكان الخطأ. ولو أجلنا النظر في القطاع الحكومي لوجدنا من الأمثلة الكثير. نظام المنافسات الحكومية يشترط الترسية على صاحب أقل الأسعار المتنافسة في المناقصات. وتكون النتيجة في الغالب إعطاء المناقصة لأقل المتقدمين قدرة وجودة، وينتهي المشروع أعرج أو متعثرا لم يحقق الهدف من تنفيذه. وأترك بقية الأمثلة لكم لتفكروا في تصنيفها بعد الإجابة عن الأسئلة. فهل أنظمة الخدمة المدنية في الترقيات، والتوظيف عن طريق المسابقات، وتقويم الأداء تحقق الأهداف في اختيار وترقية الأفضل؟ وهل ساهمت إجراءات معالجة البطالة لدينا، مثل ترحيل المخالفين والتشدد في استقدام بعض الجنسيات وبرنامج حافز وبرنامج نطاقات في القضاء على البطالة وتوطين الوظائف؟ بالتأكيد، لدينا تضخم بيروقراطي في مؤسساتنا، لأننا نركز في الغالب على الوسائل ونهمل الغايات. حتى في تربيتنا لأبنائنا، نحرص على أن نحثهم على الصلاة والصوم وحسن الوضوء والاستغفار وننسى غاية الدين وهي الخلق وحسن المعاملة.