(اقتربت منه مدفوعا بنوع من الفضول والخوف عليه من خطورة ما ينوي فعله، حييته بحرارة، وكان على ملامحه مزيج من الاستغراب والذهول. قلت له: المساء جميل - وشمس الاصيل تذهب روس النخيل - هز رأسه وقال: شمس الاصيل. الجمال. المساء. الغروب. تلك مفردات توجد في قاموس الاحلام، اما قاموس الواقع فليس فيه الا مفردات الحزن). كان شابا عيدي الملامح، وكان من الرشاقة بحث إن العذارى عندما يبصرنه او يسمعن به (سعين فرقعن الكوى بالمحاجر) كما يقول عمر بن أبي ربيعة: كان النشاط ملء عطفيه، يتيح له حتى السير على الهواء، حين تحدق فيه تشعر بأنه كامل الخصال (كأنه خلق كما يشاء) ولكنه ينطوي على حزن صامت ممض. رأيته على ساحل البحر، يوزع نظراته على مهل في كل الجهات، فاذا وصلت الى الموج زاغت وغابت بدمع شفيف، وأعلنت عن شيء خطير يحاول الشاب أن يقدم عليه، ولكن رادعا خفيا يصرخ وينادي ليقف هو على عتبة التردد: ولكنه يعاود باصرار ما يود ان يقدم عليه.اقتربت منه موفوعا بنوع من الفضول والخوف عليه من خطورة ما ينوي فعله.. حييته بحرارة وكان على ملامحه مزيج من الاستغراب والذهول قلت له: المساء جميل، و(شمس الاصيل تذهب روس النخيل) هز رأسه وقال: شمس الاصيل. الجمال. المساء، الغروب، تلك مفردات توجد في قاموس الاحلام. اما قاموس الواقع فليس فيه الا مفردات الحزن، الظلام البؤس، وكل ما يدفع الانسان الى اليأس، قلت له: ما هذا التشاؤم (يازول)؟ فضحك ضحكة مرة وعاد يحدق في الموج. أراك تطيل النظر الى الموج، وأرى وراء نظراتك شيئا لا اعرف كيف اصفه، ولكني أشعر أنه خطير، فهل تسمح أن أسألك عنه؟ وبصوت متهدج قال: إنني بصراحة أحاول الانتحار غرقا. لماذا؟ لماذا؟ هكذا صرخت فقال بهدوء: لقد اصبحت منفيا من جميع الاماكن التي تواطنت دهرا فيها: أصبحت منفيا من وجوه الاطفال التي كنت ابني فيها أعشاشا لعصافيري الملونة.. منفيا من قصائد الشعراء التي كنت أبني فيها قصورا وحدائق تجري من تحتها الانهار، منفيا من قلوب الناس الذين تناهبتهم مخالب السأم. كيف تم ذلك يا زول؟ * لا ادري كيف جاء الطوفان: إن وجوه الاطفال اصبحت من احجار بعد ان كان يرفرف عليها المرح وتغرد البراءة وكذلك قلوب الناس البسطاء اصبحت من طين آسن، أما الشعراء فقد أقاموا داخل ذواتهم أطلالا وراحوا يبكون حولها أنفسهم، فهذا أحد زعمائهم يقول: (في المياه التي لا تمس التويجات سافرت عشرين عاما كنت أرقب ما يصل الريش بالقلب والطير باللؤلؤة غير أن المياه التي كنت سافرت فيها غادرت والتويجات والريش والقلب والطير واللؤلؤة) ومن هذا الزعيم؟ إنه سعدي يوسف، ولو اردت ان أنزح الدموع من عينيك لقرأت عليك ما يقول صلاح عبدالصبور أو محمد الماغوط الذي لا تجد عنده غير الصراخ. نعم لقد نفيت من كل الحقول التي كنت أزرعها بالازهار راضيا، وحتى الفضائيات التي يفترض انها أوكاري نفيت منها، فانت لا تسمع سوى أنباء الزلازل والبراكين وعدد الضحايا الابرياء برصاص الارهاب. انت لم تدع حقلا من حقول الجمال الا استوطنت فيه، وإذا عليك ان تتمتع بذاكرتك على الاقل، وتعدل عن محاولة الانتحار. * لابد من ذلك * انا لم اعرف اسمك حتى الآن اسمي.. الفرح..