تقابل في أحد العصور جيشان,ألماني وفرنسي, وتقاتلا قتالاً عنيفاً. انتصر الألماني في النهاية انتصاراً ساحقاً, وانهزم الفرنسي انهزاماً ذريعاً, وعاد الألمان بالأسرى والغنائم, فيما بقي القائد الفرنسي يلملم ما تبقى من جيشه. لما انتظم عقد ما تبقى من الجيش صاح القائد الفرنسي بنافخ البوق: اعزف موسيقى النصر دُهِش الجنود ومعهم نافخ البوق الفرنسي وتساءلوا مندهشين: أي نصر ونحن مهزومون؟ فقال قائد الجيش بأنفة: هذا العزف للتاريخ! هذه قصة طريفة نقلها الأستاذ يوسف الذكير عن الدكتور الخويطر الذي سمعها في محاضرة لأحد كبار أساتذة التاريخ بعنوان "التاريخ عبث وخداع". في الأسبوع الماضي رأيت فيلماً انكليزياً تدور أحداثه عن كتيبة بريطانية نُقلت للسودان للدفاع عن شرف التاج البريطاني ضد "الجهاد" الوطني بقيادة "المهدي" وأتباعه. لم يكن الفيلم عميقاً كعادة الأفلام التي أقتنيها, لكن ما جذب انتباهي بشدة لمجريات الأحداث في هذا الفيلم هو صورة السوداني "الخائن" العميل الذي أنقذ الكثير من الضباط البريطانيين الذين قتلوا العشرات بل المئات من بني قومه, بل وشاركهم في قتل أبناء وطنه بيديه العاريتين!! لقد كان يظهر في الفيلم كبطل إنساني شريف وشجاع وساحر. يظهر فجأة وكأنه استجابة لدعاء محبي هؤلاء الضباط وأهليهم في بريطانيا الذين كانوا يجأرون إلى ربهم في كنائسهم وأديرتهم وغرفهم. في حين أنَّه عندي وعندك وعند كل السودانيين الشرفاء وما أكثرهم هو"خائن" لبني قومه , وبائع لدينه وشرفه وأمانته. يا ترى كيف ستكون شخصية هذا "الخائن" لو قُدِّر للإخوة السودانيين أن يصنعوا فيلماً مشابهاً بوجهة نظر خاصة بهم؟ لا تفكروا كثيراً لأن الأخوة السودانيين - مثل كل العرب - لا يملكون "القوة" السينمائيَّة والتقنيَّة الفنيَّة التي تخولهم لإنتاج رصين لفيلم مثل هذا. حتى إشعار آخر سيظل عالمنا السينمائي هو ككل عوالم اليوم ,عالم عسكري اقتصادي بالدرجة الأولى, من يُمسك بتلابيبه هم فقط أرباب "القوة". هم من يستطيع أن يجعلك تؤمن بكل ما يقولونه لك, حتى أنك قد تؤمن أن الأمريكان دعاة سلام وعدالة مطلقة وتحرير!! لا تصدقوا نافخ البوق!