العسومي يرحب بالاعتراف الرسمي لإسبانيا والنرويج وإيرلندا بالدولة الفلسطينية    رونالدو: الأرقام تلاحقني    سمو محافظ الخرج يكرم متدربي الكلية التقنية بالمحافظة الحاصلين على الميدالية البرونزية بالمعرض السعودي للإختراع والابتكار التقني    100 لوحة في معرض تعابير    "التأمينات" تطلق آلية تسجيل العمل المرن المطورة    نائب أمير الشرقية يستقبل أمير الفوج الاربعون بمحافظة بقيق    أدير العقارية" تطرح 7 فرص استثمارية نموذجية في جدة للبيع بالمزاد العلني    القتل لإرهابي بايع تنظيماً واستهدف رجل أمن    اختتام مشاركة جمعية إنسان في المعرض الدولي للقطاع غير الربحي IENA    الملك مطمئناً الشعب: شكراً لدعواتكم    ضبط 10 آلاف سلعة غذائية منتهية الصلاحية بعسير    النفط يعاود الارتفاع والذهب مستقر    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء لجنة جائزة سموه للتفوق العلمي والتميز    7 اتفاقيات لتحسين جودة مشاريع الطرق في جميع المناطق    وزير الحرس الوطني يرأس الاجتماع الثاني لمجلس أمراء الأفواج للعام 1445ه    "كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة" تستعد لمرحلة «جامعة الدفاع الوطني»    محافظ الأحساء يكرّم 53 طالباً وطالبة من تعليم المحافظة لتحقيقهم جوائز محلية ودولية    مخفية في شحنة قوالب خرسانية .. ضبط أكثر من 4.7 مليون قرص من الإمفيتامين المخدر    القيادة تهنئ رئيس أذربيجان بذكرى استقلال بلاده    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    محافظ طبرجل يفتتح مقر اللجنة الثقافية والفنون بالمحافظة    الركض بدون راحة يضعف الجهاز المناعي    تطبيق تقنية (var) بجميع بطولات الاتحاد الآسيوي للأندية 2024-2025    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من وسط وشرق المملكة    السجن والغرامة لمن يتأخر عن الإبلاغ بمغادرة مستقدميه    تمنع "نسك" دخول غير المصرح لهم    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    قدوم 532,958 حاجاً عبر المنافذ الدولية    تقدير الجميع لكم يعكس حجم التأثير الذي أحدثتموه في المجتمع    «الاستثمارات العامة» يطلق مجموعة نيو للفضاء «NSG»    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    صالات خاصة لاستقبال الحجاج عبر «طريق مكة»    «الصقور الخضر» يعودون للتحليق في «آسيا»    حلول مبتكرة لمرضى الهوس والاكتئاب    القاضي الرحيم يتعافى من سرطان البنكرياس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    نائب وزير الخارجية يحضر حفل الاستقبال بمناسبة الذكرى السنوية ليوم إفريقيا    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    أخضر رفع الأثقال وصيف العالم    اليوم في ختام دوري يلو.. تتويج القادسية.. والخلود والعروبة في صراع الوصافة    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    مكتسبات «التعاون»    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    باخرتان سعوديتان لإغاثة الشعبين الفلسطيني والسوداني    إخلاص وتميز    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    نعم.. ضغوطات سعودية !    الديمقراطية إلى أين؟    ورحلت أمي الغالية    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغذامي حاول أن يورطنا في وهم مضلل لمفهوم الشعر
في أمسية نظمتها أسرة الأدباء بالبحرين عن النقد الثقافي.. محمد العباس:
نشر في اليوم يوم 08 - 12 - 2003

استضافت أسرة اتحاد كتاب وأدباء البحرين مؤخراً الكاتب والناقد السعودي محمد العباس في محاضرة بعنوان (مثاقفة النقد الثقافي) شهدت حضوراً فاعلاً وتناولت قضية النقد الثقافي انطلاقاً من كتاب د. عبد الله الغذامي (النقد الثقافي).
النقد الثقافي
بدأ العباس محاضرته قائلا:ً النقد الثقافي، كما أعلنه الدكتور عبدالله الغذامي، محاولة لتبصيرنا بخطر العيوب النسقية المختبئة تحت عباءة الجمالي . وبهذه النية التقويمية يفترض أن يكون كمشروع، إما استكمالا لما قبله من بحوث، تعديلا ولو جزئيا، أو توبة عنها، أو ربما انقلابا عليها، بحلول معرفية تقوم على كفاءة الدرس الألسني، وعليه يختصرها كمهمة بحثية في تحريك أدوات النقد باتجاه فعل الكشف عن الأنساق وتعرية الخطابات المؤسساتية والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة. وتلك مهمة تأويلية جليلة دافعها البحث عن حقيقة مخالفة ومنبعها الحذر تجاه الموروث، كما يموضع امبرتو ايكو الذوات النقدية المؤولة أمام موروثاتها الثقافية، والتي قد تصبح مرتعا لسلسلة من القراءات المتشككة والمترفة تأويليا، كلما النص داخل المنظومة الثقافية واستعصى على المقاربة، وهو ما يتأكد كمقاصد عند الغذامي لحظة تسليمه بأن الخطاب الشعري اكتسب حصانة جعلت نقده ضربا من المحرمات الثقافية .
ويرى العباس أن هذه الخطوة تتأسس على مغالطة جدلية صريحة، فقدسية الشعر عربيا لم تعصمه من النقد على مر التاريخ، فهو أكثر الخطابات عرضة للانتقاد والتصحيح، خصوصا فيما يتعلق بالمعنى الذي لم ير فيه الفارابي اتساقا مع سذاجة الايقاع مثلا ، وبدليل الشكل الأحدث للشعر، واستمرار الجدل الحاد حول قوالبه الفنية والبحث الجاد عن حواضن مادية وجودية لمضامينه، وعلى عكس ما يفترضه الغذامي لم يتواطأ النقد مع الشعر تاريخيا ولم يجاره، برأي الدكتور عبدالله ابراهيم، وحتى مقولة أن الشعر احتكر مشروع التحديث بحاجة الى فحص.
وهم تأويلي
ويؤكد أن ذلك الوهم التأويلي انما برز في سياق الكتاب نتيجة ارتهان الغذامي للنظريات الشمولية عوضا عن التحليلات الموضعية للخطابات، أو تعلقه حد الانخطاف بالنظرية والتنظير على حساب التدقيق في المفاهيم والمصطلحات، برأي الدكتور معجب الزهراني، وربما أراد الغذامي الايهام بأنه أول من وضع قداسة ديوان العرب تحت طائلة الشك النقدي، وأنه بهذا يخطو في أرض لم يطأها قلم للتأكيد على جسامة مهمته لتعرية الأنساق المختلة وتصحيح المكونات البنائية لذائقة الأمة، وهو أمر يمكن القيام به، حسب امبرتو ايكو. ولكن يبدو أن الغذامي استجاب شكل أو بآخر لنصيحة جاناتان كالر من حيث الذهاب بالتأويل الى حدوده القصوى ليثير اهتماما أكبر، فلم يكن بحاجة لمراعاة حدوده، بتصور حسين السماهيجي، إذ لم تكلف قراءته نفسها عناء البحث والانسجام لتأويليتها، وهذا ما لاحظه الدكتور معجب الزهراني أيضا بشأن نزعته التأويلية المتسمة بنبرة عالية وبوثوقية لا تترك مجالا للحذر المعرفي . وهكذا جاءت معالنته بموت النقد الأدبي، ثم الحرب على الشعرنة بنبرة تفضيحية رغم استدراكاته، أو اكتفائه بتعاطي مفاهيم محدودة للفاعلية الشعرية.
إدانة الشعر
ويوضح أن الغذامي يقرر بعبارة احترازية عريضة لا تخلو من الاستبراء أن في الشعر العربي جمالا وأي جمال ، ولكنه أيضا ينطوي على عيوب نسقية إذ ان ديوان العرب من وجهته كان هو المخزن الخطر لهذه الأنساق وهو الجرثومة المتسترة بالجماليات الى درجة الزعم بأنه المسؤول عن التأسيس لذات تترجم وجودها في قصيدة، وتنم عن تركة ثقيلة من العيوب المقبحة والمعطلة للشخصية العربية (الشحاذ، المنافق، الكذاب، الطماع) وصولا الى اتهام بصناعة الطاغية في الحياة العربية، وهو اتهام لا يبقي شيئا من دلالات الوهن والانحراف القيمي والسلوكي في المجتمع الا وحقنها في الخطاب الشعري.
إذ يؤسس جدله ابتداء على رؤيتين متضادتين للشعر كفكرة تراثية يوتوبية، أحدها تعليه وتمجده وأخرى تزهد فيه وتقلل من شأنه يندفع في الاعلاء من شأن الصيغة الثانية على حساب الأولى دون مراودة لطرد التراث من المنظومة الثقافية.
وانتقد العباس الأحكام النهائية والسلطوية لرموز الحداثة ومنجزاتها تلك التي قام بها الغذامي وكذلك اتخاذه من نموذج الشاعر نسقا يكشف من خلاله الصورة الكاذبة والمزيفة في الثقافة العربية، فالشاعر خدين للماضي، وله شحنة قوية من التراث،وهو بذلك يمكن لميثولوجيا الشاعر من التحكم في تفسير معضلات ذات خطورة.
تجريد المؤلف
ويرى العباس أنه لهذا السبب تحديدا جرده ابراهيم محمود من صفة العلمية نتيجة انتقائيته وتعميمياته ولجوئه الى التفسيرات والتأويل العشوائي. وهكذا جاءت كل أسئلته البديلة، سؤال النسق بديلا عن سؤال النص، والسؤال المضمر بديلا عن سؤال الدال، وسؤال الاستهلاك الجماهيري كبديل عن سؤال النخبة، فهذه المتوالية الاستفهامية ليست سوى عناوين غير مخدومة علميا، الأمر الذي حدا بناظم عودة أيضا الى اتهامه بالانفصام والمزاجية واللاعلمية فمرة جماليات أدونيس نخبوية ومرة مهيمنة تماما كما وصف حسين السماهيجي قراءته لأيقونة الأنوثة بالقراءة المترصدة، اللا حيادية، من حيث اصراره على اجراء نوع من القراءة المغرضة للنص الأدونيسي وهو ذات الاتهام المخفف الذي واجهه به الدكتور عبدالله ابراهيم إذ سجل عليه جملة من التناقضات حيث تشوب تحليلاته نظرة اصلاحية تتعالى فيها أحيانا أحكام أخلاقية واعتبارية ومن حيث اهماله للجانب الايحائي والرمزي في الأدب والفكر والحياة لصالح الجانب التقريري الصريح والعقلاني الصرف الحامل لأنساق قيمية تربوية.
كل تلك الملاحظات كانت مطروحة قبالة الغذامي في بواكير مشروعه حيث تمنى سعيد السريحي ملامسة المشروطية الجمالية وأفتقد الدكتور محمد الشوكاني مسألة التاريخانية لكنه استمر في تفسير موقفه من الشعرنة التي حولت الذات العربية الى ديوان شعر شديد الارتباط بفعل المديح والمفاخرة والمباهاة والنفاق ، وبالتالي فإن كوننا كائنات شعرية ليس خبرا جميلا كما ظللنا نعتقد حسب استنتاجاته، فقد تشعرنت الأنساق وصرنا فعلا الأمة الشاعرة واللغة الشاعرة ولكن فرحنا وتباهينا بهذه الصفات ليس سوى خدعة نسقية لم نع ضررها .
التأويل الجامد
وحول تأويل الغذامي يقول المحاضر بدأ الغذامي مؤولا جازما لا متشككا على عكس ما يفترضه التأويل، فقد اكتفى بتعاطى المقولات والنصوص في مستواها الاستخدامي تأويليا فعبارة أعذب الشعر أكذبه مقولة لا تحتمل عنده الا مدلولها النصي، وكذلك مقولة المعنى في بطن الشاعر دلالة على الرغبة في احتكار الحقيقة، وقول أحمد شوقي أنتم الناس أيها الشعراء محاولة لفرز طبقي نسقي تمييزا لفئة الشعراء وهكذا، الأمر الذي أدى الى سقوط الشعر وبروز الشاعر حتى يصل الى التسليم بأن الشعر خطاب لا عقلاني واستعبادي استنادا الى مفهوم التوحيدي في التفريق بين عقلانية النثر وحسية الشعر ، ساخرا من خرافة الشعراء الثقافية المؤسسة على التمايز الشعوري للشعراء، ومن واديهم الموهوم ( عبقر ) ومسجلا احتجاجه على التصنيف الذي أورده النقاد لطبقات الشعراء وللأسس التي انبنى بموجبها مفهوم الشاعر الفحل في مدارات التمأسس والتنمذج النسقي.
وهذا الادعاء القائم على توظيف الخرافة الثقافية والاعتماد عليها كقوة في الإرهاب ليس جديدا على الذات الشعرية العربية ، حسب تحليله ، انما يأتي استكمالا للأنا الفحولية المغروسة تاريخيا وشعوريا وثقافيا في الضمير النسقي منذ زمن الجاهلية ، التي تستلهم النحن القبلية ، وتترجمها الى الذات المفردة ، المبالغة في ذكوريتها ، وأبويتها ، ومركزيتها المتعالية بشكل مطلق.
وهكذا يحمل الغذامي الشعر مسؤولية الانحراف بالذات العربية، والتي يؤرخ لها من نهاية العصر الجاهلي حيث حدث تطور ثقافي خطير تغير معه النسق الثقافي العربي وتحولت النحن الى الأنا مثلما تحولت القيم من بعدها الانساني الى بعد ذاتي نفعي أناني، وتحول الخطاب الثقافي الى خطاب كاذب ومنافق حيث تفشى ما يسميه ثقافة المدائح القائمة على عقد صريح وضمني بين المادح والممدوح، أحالت بموجبها مثلا قيمة الكرم من بعدها الأخلاقي والانساني الى بعد شعري الأمر الذي أنتج طابورا من الشعراء تحت الطلب يروجون لنموذجهم المدائحي، حيث يصيب الغذامي التراث الشعري / النقدي بضربه قاصمة من حيث اتهامه للموروث الثقافي العربي بمنح المنزلة لأسوأ أنواع الشعر من حيث القيمة الانسانية .
الانحياز البحثي
ويرى العباس أن ثمة انحيازا بحثيا للغذامي، أي في مقروئيته التاريخية والثقافية والفنية للإبداع فقد أخضع وعيه ، وحاول أن يورطنا ببساطة في وهم مضلل لمفهوم الشعر، أو هكذا تعاطاه خطاب مجازي متعال على شروط الواقع والمنطق ولذلك حاول الانقلاب على ذلك الوهم، لكن علي الديري لم ير في مقترحاته جديدا، فقد توقف أمام مراوحاته ليستنتج أنه لم يتخلص من الثنائيات في رؤيته للخطاب المجازي الشعري، بقدر ما أعاد خطابه انتاجها، وهكذا أراد الثقافة العربية أن تعاضده فيما هي منقلبة عليه أصلا ومنذ زمن بعيد، متناسيا أن ذلك الاعتقاد لم يكن ملزما ولا مقنعا الا لدارسين ومتلقين ما زالوا يراوحون في المربع الأول، فقد جودل مفهوم الشعر قديما وحديثا بتنظيرات فلسفية وجمالية ونفسية وتاريخية لا تخرج به عن مدارات الحياة ، فهو يشبه الحياة ، ويشتهي أن يتطابق مع حراكها بالمفهوم النتشوي ، فالشعر في قلب الحياة وليس مجرد خطاب يحاذيها.
ولا يمكن للغذامي إيهامنا بشكل انتقائي خانق ومعطل لفاعلية الخطاب الشعري، من خلال التركيز على مظاهر لغوية ونسقية.
ويقدم العباس استشهاداً يعبر عن شعر المحبين والعذريين والمتصوفين والمقهورين والمهمشين الذين يصعب على الغذامي حشرهم في قراءته النسقية التنميطية. وهذا الاستشهاد التدليلي كمفردة صغيرة ضمن جملة طويلة تندرج في نسق جميل ومثابر من أجل الحياة، وقد رصد جذورها حسين مروة بنقد ثقافي لافت في كتابه تراثنا كيف نفهمه وثنى على ذلك المنزع في كتابه دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي ليرسم خطا بيانيا لنسق يضم فيما يضم عمرو ابن أحمد الباهلي، عبدالله بن الحجاج الثعلبي، والراعي النميري، وشبيب يزيد بن النعمان، ودعبل الخزاعي، والكميت بن زيد الأسدي، وغيرهم ممن أرادوا بشعرهم التأكيد على وعي حقيقي بالحاجة الى الحرية، استكمالا لوعي أعمق لذلك المفهوم الانساني بدأ مع الشعراء الصعاليك، كسؤال مركزي لفئة يراهم كراتشكوفسكي انعكاسا بيئيا يتمثل الذهنية والوجدان والذات العربية بأمانة، وقد جسدوا صيغة من صيغ الاحتجاج على عالمهم الجاهلي الذين صنفهم التمايز الاجتماعي الجديد في الجاهلية بين فئة المستثمرين - بفتح الميم الثانية -أي فقراء هذه القبيلة وتلك، بتعبير حسين مروة الذي أدرج في ذات النسق بشار بن برد وأبا نواس ممن يشكون نسقاً مجادل لمعاني الكرم والشهامة ودافعية الوجود الانساني، والمستكمل بنسق الشعراء المحبين الذي ينسجون ذواتهم في مدارات العاطفة والرغبة الانسانية الحرة لا التزلف والنفاق.
ارتباك الناقد
ولأن الغذامي ابتدأ من وجهة نظر العباس من نتائج معروفة ومعرّفة سلفا، وأراد أن يؤكد على أمور محسومة بدا الغذامي مرتبكا، يدور في ذات الدائرة محاولا تربيعها، لكنه لا يأتي بجديد يفتح به مفهوم الشعر، أو يطور مقولات نقدية أقدم، فهو في حقيقة الأمر لا يفضح خابيا أو مستعصيا من الأنساق الثقافية، كما يتوعد في كل منعطفات الكتاب بتطرف تأويلي، وبلغة حادة تنم عنها مفرداته وألفاظه ( خطورة - الفضيحة - رجعية - العمى الثقافي - الارهاب - تعرية - استفحال ... الخ ) وكأنه يبدأ من عدم عربي بشأن هذه الحقائق، أو يقدم على هول معرفي خطير، كما يحاول الإيهام ، متناسيا أن كل ثقافات العالم تورطت في مثقفين ومبدعين يفارق منظرهم الجمالي وكفاءتهم الفنية مفاهيمهم الحياتية كما حدث مع مايكوفسكي مثلا ، وأزرا باوند، بل والجواهري عربيا.
هكذا يبدو الغذامي في قراءته للأنساق فهو يبدو مرة وعظيا أخلاقيا، وأخرى مقرا بالشعر ومحتجا على الشعرنة. أحيانا يراهن على المقروئية ليرفع منسوب الاحساس بخطورة النسق، ولا يلبث أن ينكر أثر جماهيرية الشاعر، تماما كما يبدأ موضوعيا في مجادلته لمفهوم يريد التأكيد عليه ثم ينعطف جماليا وبشكل تعميمي غير منضبط من الوجهة المعرفية عندما يفقد القدرة على التدليل، وهي تنقلات معرفية يتطلبها النقد الثقافي كرؤية تقليبية للموضوعات على كافة الوجوه المحتملة، ولكنه يشترط في ذات الوقت طريقة دينامية وحفرية متعددة المرايا لا قفزات مزاجية للدفاع عن زاوية ضيقة من آفاقية الشعر، فالنقد الثقافي دراية واستحضار للتاريخ والفكر وكل أواليات المنظومة الثقافية والحواضن المادية التي أنتجت الخطاب الشعري.
ودون أي مفارقة أو استكمال مبتكر لما بدأه الجرجاني يستعجل الغذامي ادانة الاعتقاد والمعتقدين بحداثة أبي تمام ويعتبره دلالة فحولية لمقدرة الشاعر على التخفي تحت ستار البلاغة والمجاز والجملة البلاغية ، ومن ناحية المقروئية هي دلالة أيضا على تمكن النسق فينا.. وعدم تطوير المقولات النقدية من مستواها الجمالي/البلاغي التي طالما احتج على ثباتها. مكتفيا بالدلالة النصانية الصريحة.
روح إقصائية
ويؤكد العباس أن الغذامي بنفس الآلية والروح الاقصائية التي لا تكاد تلامس سطوح الأشياء ينفي المتنبي من الحداثة ويجرده من النزعة الانسانية بسبب مدائحيته واكتمال نسقيته الفحولية فهو أقل الشعراء اهتماما بالانساني وتحقيرا له ويجهز على نزار قباني بسبب أنثويته، التي جادلها بضيق نفسي وبوعظية أخلاقية، أو بما يشبه إدانات العقاد المباشرة لأبي نواس من واقع ومظهريات نصه، فهؤلاء الشعراء انما منحوا المكانة، برأيه، لخطأ معياري عربي يمنح المنزلة لأسوأ أنواع الشعر من حيث القيمة الانسانية .
عند هذا المنعطف التأويلي يعلن بداية النقد الثقافي وانتهاء دور حفاري القبور وإن قلل من احساسه باحتياز ريادة التنظير للنقد الثقافي إثر جملة من الاعتراضات التي واجهت محاولاته الأولى عبر سلسلة من المحاضرات، وبعد أن استشعر بشيء من اليقين المعرفي، كما يبدو من كتابه، استحالة فصل النقدين الأدبي عن الثقافي، لدرجة تسليمه بأن النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام . وعلى ذلك الاستدراك المعرفي أراد أن يعيد الأمور الى نصابها المعرفي ويمارس نوعا من الجهد التأصيلي في كتابه النقد الثقافي لكنه عندما اقترب مما يسميه ذاكرة المصطلح وقف أمام مفارقة معرفية تنم عن فراغ نقدي موحش، إذ لم يجد للمصطلح أي ذاكرة عربية - تراثية أو معاصرة - عدا استدراكات طفيفة لا تكاد تذكر عند ادوارد سعيد فيما سماه بالنقد المدني، وبطبيعة الحال احالات متكررة الى كتابه الخطيئة والتكفير متغافلا عن جملة من التنويهات النقدية، كإشارة محمد الأسعد مثلا في كتابه بحثا عن الحداثة الى أهمية الاتكاء على النقد الثقافي كحل لكساح الأداة النقدية وقصورها المزمن عن فض النصوص الأدبية وما وراءها، أو ما وصفه محمد مفتاح لاحقا بالنقد المعرفي، وما نادت به مجلة الآداب في الخمسينيات تحت مسمى النقد العقائدي، وكذلك النقد الشامل الذي بشر به محمد بنيس في حداثة السؤال .
لكن الغذامي بدأ هذا الفصل ذاكرة المصطلح وكأنه تلخيصا مدرسيا لما يجري هناك، أي في دائرة الآخر الغربي، من خلال محاولاته لموضعة الفكر أو النقد في منطقة المابين أو المابعد فكل الإحالات كانت تتجه وتنهل من مصادر أجنبية.
ومرد الأمر كما يبدو يكمن في احساسه ورغبته بامكانية اجتراح نظرية نقدية انقلابية يكون هو مرجعها، أو ما اعتبره الدكتور معجب الزهراني محاولة قسرية لتحرير ذلك المصطلح من ذاكرته الدلالية الغيرية بهدف استنسابه، أي تحويله إلى مصطلح ذاتي ينسب الى الباحث وبحثه وذلك حق لا يتأتي بمجرد النيات، بل بدفع النقد ذاته من وظيفته الأدبية الى الوظيفة الثقافية، كما يبرمج المشروع استراتيجيته، أي كما حدد مهمته في تلازم جملة من الأجراءات بنقلات أشبه بالتحديات في المصطلح، والمفهوم، والوظيفة، والتطبيق، لكن الغذامي يكثر من الاستشهاد بجهود وفطنة التوحيدي والجاحظ الجرجاني.
ومن جهة أخرى يتجاهل، أو ينصرف عن جهود مجايليه، إذ لا يحتوي الكتاب على احالات لمشاريع عربية حديثة تذكر سوى كتبه القديمة، ليوحي بأنه يبدأ من صفر عربي ربما، الأمر الذي حدى بشربل داغر الى اعتباره لبوسا جديدا لنقد قديم، فيما اتهمته أمينة غصن بالنرجسية والتعالي، وتأسيس نسقه من تصورات قبلية وأحكام مسبقة، أقرب الى يقين اللاهوت ومسلماته منها الى الفرضيات الجدلية التي تنفتح على الافتراض واستعادة الافتراض، مستنتجة أن النقد الثقافي هو نقد نسقي أفقي لا عمودي وفي أفقيته تكمن ضديته، وهو الأمر الذي أكده أثير محمد شهاب فقد رآه يحاول الرفع من أناه المتعالية المتضخمة ويصف نفسه بالمجتهد وهذا غير صحيح فصفة الاجتهاد تأتي من الآخرين وليس بلسان صاحب المنجز. وإذا ما تجاوزنا الروح الهجائية الوعظية المجسدة بأسلوب إنشائي. وينهي العباس محاضرته قائلاً واذا كان هنالك من تجاوزات وزلات للشعراء إزاء المركبات الفاعلة في بناء الذات، وهو أمر لا يمكن انكاره في كل الثقافات فانها ليست أكثر خطورة، بل لا تقارن بجنايات فقهاء البلاط مثلا، الذين ادعوا احتكار الحقيقة وحق املائها على الناس، فهنالك كانت تنبني نسقية تبريرية وتشريعية للخطأ أكثر خطورة بالمعنى البنيوي، ليس على الذات وحسب بل على منظومة القيم التي أسست لخطأ تاريخي يصعب تعديله الا بحدث تاريخي
بهذا تشكلت الذات العربية ، وفق ما تستنتجه مدرسة التاريخ العقلاني وعلم الاجتماع الحديث ، حيث تكون مجموعة من الوقائع الاجتماعية او الدينية او الفيزيولوجية او الاخلاقية سببا لمجموعة وقائع أخرى، وليس مجرد قصيدة، فالنص الشعري دليل على الوجود المادي ... فقد كانت هنالك قصيدة تمثل صوت الناس، وتؤسس لخطاب شعري يحتج على ذلك النسق المقلوب بقوة طرد تخفف القصيدة من بيانيتها ومن مناسبيتها لتأخذها الى مكامنها الوجودية ، فالشعر كبقية الخطابات والفاعليات الانسانية بقدر ما يروج للجمال، يثابر من أجل وعي وشعور أقرب الى حقيقة تصير أغنية في قلب الحياة.
عبد الله الغذامي
معجب الزهراني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.