"البنك الإسلامي" يستعرض أهم الطرق إلى الازدهار وتحدي الفقر    «الاحتياطي الفدرالي» يتجه لتغيير لهجته مع عودة التضخم    جعجع: «حزب الله» يعرّض لبنان للخطر    مدرب توتنهام : لا ارغب في تعطيل سعي أرسنال للتتويج    ضبط 19,050 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في أسبوع    «الداخلية»: تنفيذ حكم القتل بجانٍ ارتكب أفعالاً تنطوي على خيانة وطنه وتبنى منهجا إرهابياً    جامعة حائل: اختبار «التحصيلي» للتخصصات النظرية شرط للقبول السنوي للعام الجامعي 1446    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    أمطار خفيفة على منطقتي جازان وحائل    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    مطار الأحساء يطلق رحلة إضافية مباشرة لدبي    عسير تكتسي بالأبيض    اتفاقيات مع الصين لبناء آلاف الوحدات السكنية    بيانات التضخم الأمريكي تصعد ب"الذهب"    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    بينالي البندقية يزدان بوادي الفنّ السعودي    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    إغلاق منشأة تسببت في حالات تسمم غذائي بالرياض    الأحمدي يكتب.. الهلال يجدد عقد السعادة بحضور جماهيره    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 686 مليون ريال    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الإعلان عن تفعيل الاستثمارات المباشرة وانطلاق العمل الفعلي في صندوق "جَسور" الاستثماري    وفاة الأمير منصور بن بدر    منتخب اليد يتوشح ذهب الألعاب الخليجية    ريال مدريد يهزم سوسيداد ويقترب من التتويج بالدوري الإسباني    جيسوس يفسر اشارته وسبب رفض استبدال بونو    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    «الدفاع الروسية» تعلن القضاء على ألف وخمسة جنود أوكرانيين في يوم واحد    "الشؤون الإسلامية" ترصد عددًا من الاختلاسات لكهرباء ومياه بعض المساجد في جدة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    رؤية الأجيال    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    "السينما الصناعة" والفرص الضائعة    محمد بن عبدالرحمن: طموحات وعزيمة صادقة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بول ديكور" في بحث عن السرد "1 2"
نشر في اليوم يوم 13 - 10 - 2003

ان كون الحياة ذات صلة بالسرد امر كان معروفا دائما، وقد تكرر قوله كثيرا، فنحن نتحدث عن قصة حياة لنصف التواشج بين الميلاد والموت. مع ذلك فان المماثلة بين الحياة والقصة ليست واضحة في الواقع، ولابد من وضعها تحت طائلة الشك النقدي. وهذا الشك هو عمل كل المعرفة التي استحصلتها العقود القليلة الماضية حول السرد، وهي معرفة يبدو انها تفصل السرد عن التجربة المعيشة، وتقصره على منطقة الخيال. سنمضي، اولا، لاختراق هذه المنطقة النقدية ونسعى لاعادة التفكير بطريقة اخرى في هذه العلاقة المسرفة في التبسيط والمباشرة جدا بين التاريخ والحياة، تلك الطريقة التي يسهم فيها الخيال في صنع الحياة، بالمعنى البيولوجي للكلمة، اي الحياة الانسانية. اريد ان اطبق على العلاقة بين السرد والحياة حكمة سقراط القائلة ان الحياة بلا عناء لا تستحق ان تعاش.
سأتخذ نقطة بدء لي حين ادنو من منطقة هذا النقد ملاحظة احد الشراح: القصص تروى ولا تعاش، والحياة تعاش ولا تروى، ولتوضيح هذه العلاقة بين العيش والسرد، اقترح ان نبدأ اولا بفحص فعل القص نفسه.
ونظرية السرد التي ازمع مناقشتها حديثة جدا، ما دامت في ارقى صورها تعود الى الشكلانيين الروس والتشيك في العشرينات والثلاثينات، والى البنيويين الفرنسيين في الستينات والسبعينات. ولكنها قديمة جدا، ايضا بحيث يمكن رؤيتها وقد تجسدت في كتاب (فن الشعر) لارسطوطاليس. صحيح ان ارسطو لم يعرف سوى ثلاثة اجناس ادبية، هي الملحمة والتراجيديا والكرميديا. غير ان تحليله كان من العمومية والشكلية بما يكفي لايجاد متسع للتحولات الحديثة. ومن ناحيتي لقد استبقيت من (فن الشعر) لارسطو مفهوم بناء الحبكة المركزي الذي هو في اليونانية (ميتوس) إله الاساطير والمرويات الذي يشير الى كل من الحكاية (بمعنى القصة المتخيلة) والعقدة (بمعنى حبكة القصة المبنية باتقان). وهذا الركن الثاني من الميتوس عند ارسطو هو الذي اجعله دليلا لي، وارجو ان استخرج من هذا المفهوم عن الحبكة جميع العناصر التي يمكن ان تساعدني فيما بعد في اعادة صياغة العلاقة بين الحياة والسرد.
وما يسميه ارسطو بالحبكة ليس بالبنية الساكنة. بل هو عملية واجراء متكامل لا يمكن ان يتم ويكتمل، كما سأحاول ان ابين فميا بعد، الا لدى القارىء او المتفرج، اي لدى متلق حي للقصة المروية. واعني بالعملية المتكاملة العمل التأليفي الذي يضفي على القصة هوية ديناميكية متحركة اي ان ما يروى هو قصة معينة، واحدة وكاملة في ذاتها. وعملية بناء الحبكة هذه هي التي سأضعها موضع الفحص في الجزء الاول من مقالتي.
بناء الحبكة
سأعرف عملية بناء الحبكة، تعريفا واسعا بوصفها تركيبا بين عناصر متنافرة. تركيب بين اية عناصر؟ قبل كل شيء تأليف او تركيب بين الاحداث والعوارض التي هي متعددة، وبين القصة الواحدة المكتملة. ومن خلال وجهة النظر الاولى هذه تقوم الحبكة بوظيفة ايجاد قصة واحدة من احداث متعددة، او اذا شئت تحول الاحداث العرضية الكثيرة الى قصة واحدة. ومن هذه الناحية فان الحدث ليس مجرد شيء عابر، اعني انه اكثر من مجرد شيء يحدث وكفى، بل هو ما يسهم في مجرى عملية السرد، مثلما يسهم في بدايتها ونهايتها. وانطلاقا من هذا فان القصة المروية، هي دائما اكثر من مجرد احصاء وتعداد في نظام معين، سواء اكان متسلسلا ام متعاقبا للاحداث او العوارض التي تنظمها في كل معقول. والحبكة كذلك تركيب من وجهة نظر ثانية، فهي تنظم معا المكونات التي لا تقل تنافرا عن الظروف غير المقصودة، والكشوف التي تؤدي الافعال والتي تفتقر اليها، والمصادفات او المواجهات المخطط لها واشتباكات الفاعلين ابتداء من الصراع وانتهاء بالتعاون، والوسائل المعدة اعدادا متقنا او بائسا للوصول الى الغايات واخيرا النتائج غير المقصودة. ان جمع كل هذه العوامل في قصة واحدة يجعل الحبكة كلية شاملة يمكن القول انها متوافقة ومتضاربة في وقت واحد (وهذا هو سبب حديثي عن التوافق المتضارب او التضارب المتوافق فيما بعد) ونحصل على فهم لهذا التأليف من خلال فعل متابعة قصة ما لان متابعة القصة عملية معقدة جدا، تقودها توقعاتنا حول نتيجة القصة، والتوقعات التي نعيد ترتيبها في اثناء مواصلة القصة حتى تتوافق مع الخاتمة. ولابد ان اشير عابرا الى ان اعادة رواية القصة يكشف، بجلاء، عن هذه الفعالية التركيبية التي تعمل عند التأليف الى حد اننا لا نقع في اسر الجوانب غير المتوقعة للقصة بنفس الدرجة التي ننصرف فيها الى الطريقة التي تؤدي بها الى خاتمتها. واخيرا فان بناء الحبكة هو تركيب بين المتنافرات بمعنى اكثر عمقا، وهو المعنى الذي سنستعمله فيما بعد لوصف الزمانية الخاصة بالتأليفات السردية. ويمكننا القول ان هناك نوعين من الزمن في كل قصة مروية: فمن ناحية هناك تعاقب متقطع مفتوح ولا نهائي نظريا، وهو سلسلة من الاحداث (لاننا نستطيع دائما طرح السؤال التالي: ثم ماذا؟ ثم ماذا) ومن ناحية اخرى تقدم القصة المروية جانبا زمنيا اخر يتسم بالتكامل والنضج والاختتام الذي تدين له القصة بحصولها منه على صياغة تصويرية معينة بهذا المعنى يكون تأليف القصة من الوجهة الزمانية استخراج صياغة تصويرية من تعاقب ما. ونستطيع سلفا ان نخمن اهمية هذا الاسلوب في تشخيص القصة من وجهة النظر الزمنية، بقدر ما يمثل الزمان بالنسبة الينا ما ينقضي ويجري، وما يبقى ويظل من ناحية اخرى. وسنعود لاحقا الى هذه النطقة ولنحصر اهتمامنا في الوقت الحاضر بوصف القصة المروية بانها كلية زمانية، والفعل الشعري بانه خلق وساطة بين الزمن كانقضاء ومرور، والزمن كدوام وبقاء. فاذا تحدثنا عن الهوية الزمنية للقصة، فيجب ان نصفها بانها شيء يبقى ويظل امام ما يمر ويجري.
من هذا التحليل للقصة بوصفها تركيبا بين المتنافرات، يمكننا الاحتفاظ بثلاث سمات: الوساطة التي تؤديها الحبكة بين الاحداث المتعددة والقصة الموحدة، واولية التوافق على التضارب، واخيرا التنافس بين التعاقب والصياغة التصويرية.
لابد لي من تقديم اللازمة المعرفية (الابستمولوجية) لهذه الاطروحة حول بناء الحبكة، الذي فهم بوصفه تركيبا بين المتنافرات. وتتعلق هذه اللازمة بنوع المعقولية التي ينبغي عزوها الى فعل الصياغة التصويرية. لا يتردد ارسطو في القول بان كل قصة مبنية بناء محكما تعلمنا شيئا. اضف الى هذا انه قال ان القصة تكشف عن جوانب شمولية في الوضع الانساني، وان الشعر، من هذه الناحية، اكثر تفلسفا من التاريخ الذي يعتمد الى حد كبير على الجوانب العرضية في الحياة. ومهما كان ما قيل عن هذه العلاقة بين الشعر والتاريخ، فمن الاكيد ان التراجيديا والملحمة والكوميديا، اذا لم نذكر سوى ما عرفه ارسطو من اجناس ادبية، تطور نوعا من الفهم الذي يمكن تسميته بالفهم السردي، والذي هو اقرب الى الحكمة العملية في الحكم الاخلاقي منه الى العلم، او بمزيد من العمومية، الى الاستعمال النظري للعقل. ونستطيع توضيح هذا بطريقة بسيطة جدا. تتحدث الاخلاق كما فهمها ارسطو، وكما يمكن فهمها حتى اليوم، حديثا مجردا عن العلاقة بين الفضيلة والبحث عن السعادة. ووظيفة الشعر بشكليه السردي والدرامي ان يقترح على الخيال وعلى توسطه، اشكالا مختلفة تكون (تجارب فكرية) كثيرة نستطيع ان نتعلم من خلالها الربط بين مظاهر السلوك البشري والسعادة والشقاء. من خلال الشعر نتعلم كيف تنتج تقلبات الحظ من هذا السلوك او ذاك. مثلما تبني الحبكة ذلك في السرد. وبسبب الالفة التي صرنا نشعر بها من انواع الحبكة التي نتلقاها من ثقافتنا صرنا نتعلم ربط الفضائل، او بالاحرى اشكال التفوق، بالسعادة او الشقاء. وتشكل هذه (الدروس) الشعرية (الكليات) التي تحدث عنها ارسطو غير ان هذه الكليات تحتل مرتبة دنيا بالقياس الى المنطق او الفكر النظري. فينبغي ان نتحدث عن الفهم لكن بالمعنى الذي اعطاه ارسطو لكلمة Phronwsis (اي الحصافة والتبصر والتدبر) التي ترجمها اللاتينيون بكلمة Prudentia بهذا المعنى تهيأت للحديث عن الفهم الحصيف لكي اقارنه بالفهم العقلي والسرد ينتمي الى الفهم الاول لا الى الثاني.
ان النتيجة المعرفية (الا بستمولوجية) لبحثنا هي الاخرى لها تطبيقات متعددة في مجهود السردية المعاصرة المتواصل لبناء علم اصيل للسرد. وفي تقديري فان هذه المغامرات وان تكن مشروعة تماما لا تحظى بالتبرير الا حين تماثل فهما سرديا سابقا عليها دائما ومن خلال هذه المماثلة تضيء هذه المغامرات (بنى عميقة) يجهلها من يروون او يتابعون القصص، ولكنهم يصنعون السردية على مستوى المعقولية نفسه الذي للسانيات او لعلوم اللغة الاخرى، وان نحدد معقولية السردية المعاصرة بقدرتها على ادعاء المماثلة عند مستوى الخطاب الثاني وهو شيء فهمناه مذ كنا صغارا على انه قصة لا يعني تكذيب التعهدات الحديثة بل يعني ان نضعها في مكانها الدقيق من تراتب درجات المعرفة.
لقد كان بامكاني بدلا من ذلك ان ابحث في مكان اخر غير ارسطو عن نموذج فكري اكثر حداثة مثل نموذج كانط تمثيلا، والعلاقة التي يقيمها في كتابه (نقد العقل الخالص) بين الرسوم التخطيطية والمقولات. فمثلما تحتل الرسوم الذهنية لدى كانط مركز المقولات الابداعي، وتشكل مبدأ تنظيم الفهم في المقولات كذلك يشكل بناء الحبكة على النحو نفسه، مركز السرد الابداعي وتشكل السردية اعادة البناء العقلانية للقوانين الكامنة في الفعالية الشعرية.
وبهذا المعنى، فهي علم ينطوي على ما يقتضيه: اي ان ما تسعى لاعادة بنائه هي التحديدات والضوابط المنطقية والسيميائية جنبا الى جنب قوانين التحويل التي توجه اشغال السرد. ولذلك لا تعبر اطروحتي هنا عن اية نية عدوانية ضد السردية بل تنحصر في القول ان السردية هي خطاب من الدرجة الثانية يسبقه دائما فهم سردي، ينبع من الخيال الخلاق.
ومن هنا فصاعدا سيتركز التحليل كله على مستوى الفهم السردي ذي الدرجة الاولى. وقبل ان اتحول الى قضية العلاقة بين القصة والحياة اود ان اتأمل في النتيجة الثانية التي ستضعني على طريق اعادة تأويل العلاقة بين السرد والحياة. يمكن القول ان هناك (حياة) للفعالية السردية مندرجة في فكرة التراثية التي يتصف بها المخطط السردي.
والقول بان للمخطط السردي نفسه تاريخه الخاص ولهذا التاريخ خصائص التراث كلها، لا يعني البتة، الدفاع عن التراث باعتباره نقلا جامدا لركام لا حياة فيه. بل يعني، على العكس وصف التراث بكونه نقلا حيا لابداع يمكن تنشيطه دائما بالعودة الى اكثر اللحظات ابتكارا في التأليف الشعري. وظاهرة التراثية هي المفتاح لتشغيل النماذج السردية، وبالتالي لتحديد هويتها. ولاشك ان تشكيل تراث ما يعتمد على تفاعل عاملين هوما المبتكر والراسب واننا لنعزو للراسب، النماذج التي تشكل انماط بناء الحبكة التي تسمح لنا ان ننظم تاريخ الانواع الادبية، لكننا لا ينبغي ان نغفل حقيقة كون هذه النماذج لا تشكل ماهيات ابدية ثابتة، بل انها تنبع من تاريخ مترسب طمس تكوينه من قبل. واذا سمح لنا الترسب او الراسب بتحديد هوية عمل ما بكونه مأساة، مثلا، او رواية تربوية، او دراما اجتماعية، او اي شيء اخر فان تحديد هوية العمل لا يستنفد باستنفاد النماذج التي ترسبت قبله. بل لابد من ادخال ظاهرة الابتكار المقابلة في الاعتبار.
لماذا؟ لان هذه النماذج نفسها التي تنبع من ابتكار اسبق، تقدم دليلا هاديا لتجريب اخر في الميدان السردي. تتغير القوانين تحت ضغط الابتكار لكنها تتغير ببطء، بل انها تقاوم التغيير بسبب عملية الترسب. هكذا يظل الابتكار القطب المضاد لقطب التراث. وهناك دائما متسع للابتكار الى حد ان ما تم انتاجه، وبالمعنى العميق لشعرية الشعر، هو دائما عمل فريد، دائما (ذلك العمل بذاته) فالقوانين التي تشكل نوعا من القواعد التي تتحكم بتأليف الاعمال الجديدة، تتجدد، بدورها بحيث يصير ما قبلها نمطا باليا. فكل عمل هو انتاج اصيل، وكينونة جديدة في عالم الخطاب. لكن العكس لا يقل عن ذلك صدقا اذ يظل الابتكار سلوكا تحكمه القواعد لان عمل الخيال لا يأتي من فراغ. فهو يرتبط بطريقة او اخرى، بالنماذج التي يوفرها التراث. غير ان بوسعه الدخول في علاقة متغيرة مع هذه النماذج، ويظل نطاق الحلول واسعا بحق بين قطبي التكرار الذليل والانحراف المحسوب، مرورا بجميع درجات التشويه المنظم. فالحكايات الشعبية والاسطير والمرويات التراثية تقف قريبة من قطب التكرار. وهذا هو السبب الذي جعلها تشكل الملكوت الاثير للبنيوية. ولكننا ما ان نترك وراءنا ميدان هذه المرويات التقليدية حتى ينتصر الانحراف على القانون. فالرواية المعاصرة مثلا يمكن الى حد كبير ان توصف بكونها رواية مضادة للرواية، اذ تصير فيها القوانين نفسها موضوعا لتجريب جديد. ومهما قيل عن هذا العمل او ذاك، فان امكان الانحراف يظل ضمنيا في العلاقة بين المبتكر والمترسب، او بين الابتكار والترسب، وهذا ما يشكل التراث. وتضفي متغيرات هذين القطبين على الخيال الابداعي صفة التاريخية، وتبقي التراث السردي تراثا حيا.
من السرد الى الحياة
يمكننا الان ان نهاجم المغالطة التي نتأمل فيها هنا: وهي ان القصص تروى، والحياة تعاش. حيث تبدو هوة لا تردم تفصل بين القص والحياة.
ولكي نردم هذه الهوة لابد في تقديري من ان نعيد النظر بطرفي هذه المغالطة ونتمعن فيهما.
ولنمكث لحظة على جانب السرد اي على جانب الخيال لنرى بأية طريقة يعيدنا الى الحياة. وتكمن اطروحتي هنا في ان عملية التأليف او الصياغة لا تكتمل في النص وحده، بل لدى القارىء، وبهذا الشرط تجعل من اعادة صياغة الحياة في السرد امرا ممكنا. ولي ان اقول بعبارة ادق، ان معنى السرد او دلالته تنبثق من (التفاعل بين عالم النص وعالم القارىء) هكذا يصير فعل القراءة اللحظة الحاسمة في التحليل بكامله. فعليها ترتكز قدرة السرد على صياغة تجربة القارىء.
اسمحوا لي ان اركز على المفردات التي استعملتها هنا: (عالم النص وعالم القارىء) يعني الحديث عن عالم النص التركيز على ملمح ينتمي الى اي عمل ادبي، يفتح امامه افقا لتجربة ممكنة، عالم يمكن ان يعاش فيه. فليس النص بالشيء المغلق على ذاته، بل هو مشروع كون جديد منفصل عن الكون الذي نعيش فيه. وامتلاك عمل ما من خلال القراءة، يعني نشر افق عالم ضمني يحتوي على الافعال والشخصيات واحداث القصة المروية. وبالنتيجة ينتمي القارىء دفعة واحدة الى افق تجربة العمل في الخيال، والى فعله او فعلها الواقعي، ان افق التوقع وافق التجربة يواجهان باستمرار احدهما الاخر وينصهران. وبهذه النظرة يتحدث (غادامير) عن (انصهار الافاق) الجوهري في فعل فهم النص.
اعرف جيدا ان النقد الادبي حريص على ابقاء التمييز قائما بين داخل النص وخارجه. ويعد اي استكشاف او سبر للعالم اللغوي خروجا عن نطاقه. اذن يتسع تحليل النص ضمن حدود النص ويحرم اية محاولة للخطو خارج النص. هنا يبدو لي ان هذا التمييز بين الداخل والخارج هو نتاج منهج تحليل النصوص نفسه وانه لا يتطابق مع تجربة القارىء. وينشأ التضاد بينهما عن تعميم الخواص التي تتسم بها بعض الوحدات اللسانية على الادب، مثل الفونيمات واللكسيمات و الكلمات. فالعالم الواقعي يقع خارج اللغة في اللسانيات. لا القاموس ولا النحو يحتويان على الواقع. ان هذه المبالغة في النقل الاستقرائي من اللسانيات الى الشعرية هي بالضبط، فيما يبدو لي ما يغري النقد الادبي اعني التصميم المنهجي المناسب للتحليل البنيوي، في معاملة الادب من خلال المقولات اللسانية التي تفرض عليه التمييز بين الداخل والخارج. ومن وجهة نظر تأويلية (هرمنيوطيقية) اي من وجهة نظر تأويل التجربة الادبية فان للنص معنى مختلفا تماما عن المعنى الذي يعرفه التحليل البنيوي فميا يستعيره من اللسانيات. فهو وساطة بين الانسان و العالم وبين الانسان والانسان وبين الانسان ونفسه. والوساطة بين الانسان والعالم هي ما ندعوه المرجعية، والوساطة بين الناس هي ما ندعوه الاتصالية، والوساطة بين الانسان ونفسه هي ما ندعوه بالفهم الذاتي. والعمل الادبي يتضمن هذه العناصر الثلاثة: المرجعية والاتصالية والفهم الذاتي. اذن تبدأ المشكلة التأويلية حين تفرغ اللسانيات وتغادر. وهي تحاول ان تكتشف ملامح جديدة للمرجعية ليست وصفية، وملامح للاتصالية ليست نفعية، وملامح للتأملية ليست نرجسية، ما دامت هذه الملامح وليدة العمل الادبي. بكلمة وجيزة، توضع الهرمنيوطيقا او التأويلية عند نقطة التقاطع بين الصياغة الصورية (الداخلية) للعمل وبين اعادة التصوير (الخارجية) للحياة في رأيي، ان كل ما قيل سابقا بخصوص حركية الصياغة التصويرية الخاصة بالخلق الادبي ليس سوى اعداد طويل لفهم المشكلة الحقيقية، اعني مشكلة تحول الصورة المناسب للعمل، من هذه الناحية يكون بناء الحبكة هو العمل المشترك لكل من النص والقارىء. لابد لنا ان نتابع الصياغة التصويرية وان نصحبها ونحقق لها قابلية كونها متبوعة، حيثما يكون للعمل حتى ضمن حدوده الخاصة صياغة تصويرية. فمتابعة سرد ما هي اعادة تحقيق فعل تصويري يضفي عليه شكله. وكذلك فانها فعل القراءة الذي يصاحب اللاعب بين الابتكار والترسب، اللاعب بالضوابط والقيود السردية، مع الاحتفاظ بامكان الانحراف، بل حتى بالصراع بين الرواية والرواية المضادة. واخيرا فان (فعل القراءة) هو الذي يكمل العمل الادبي، ويحوله الى (دليل) للقراءة بما فيه من مزايا غير قطعية وثروة تأويلية خبيئة، وقدرة على ان يعاد تأويله بطرق جديدة وفي سياقات تاريخية جديدة.
لقد صار بامكاننا في هذه المرحلة من التحليل، ان نمسك بالكيفية التي يصطلح فيها السرد والحياة، لان القراءة نفسها هي اصلا طريقة للعيش في عالم العمل الخيالي، وبهذا المعنى يمكننا القول ان القصص تروى ولكنها ايضا تعاش على نحو متخيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.