شهدت قصور “مدائن صالح” المنحوتة في الجبال، قصص أقوام حكموا شعوب هذه المنطقة من آشوريين، وأنباط، ورومان، وعرب، كما ارتبط اسمها بقوم ثمود الذين عايشوا النبي صالح ( عليه السلام) وسميت في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمدينة (الرحبة) حيث مرّ عليها صلوات الله عليه في طريقه إلى غزوة تبوك، وتربعت مكانتها في مخيلة من كتبوا عن التاريخ الإسلامي على مرّ العصور، لتحظى بعناية ودعم الحكومة الرشيدة حتى دخلت منذ ستة أعوام قائمة التراث العالمي باليونسكو. وليس بمستغرب أن تحظى مدائن صالح بذلك الاهتمام العالمي، فأرض المملكة كما قال عنها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، مسرحًا لكثير من الحضارات القديمة، وهي بأنواعها الثابتة والمنقولة تمثل العمق التاريخي للإنسان والثقافة، كما أن العمق التاريخي والثقافي للمملكة حسبما ذكر سموه في كلمة له على موقع الهيئة العامة للسياحة والآثار، جعلها محط الأنظار العربية والإسلامية والعالمية، وذلك من خلال منطلقات متعددة، ومنها الجانب التاريخي والآثاري والعمراني. وتم تسجيل (مدائن صالح) كأول موقع سعودي في قائمة التراث العالمي في اليونسكو، في شهر رجب من عام 1429ه (2008م)، بعد قصة بدأت فصولها منذ 14 عاماً، حينما تم البدء في دراسة ملف التسجيل بشكل مستفيض عام 1422ه، ورفعه لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز – رحمه الله – بصفته آنذاك رئيس مجلس إدارة الهيئة العليا للسياحة, رئيس اللجنة الوزارية الُمشكلة لدراسة هذا الموضوع، ليمضي انجاز الملف بعد صدور الأمر الملكي رقم أ/2 وتاريخ 28-02-1424ه، بضم وكالة الآثار إلى الهيئة العليا للسياحة، وتصبح الهيئة مسؤولة عن تنفيذ مهام الآثار إلى جانب مسؤوليتها عن السياحة، فقامت بإعداد تقرير شامل يحتوي على توضيح الكثير من التساؤلات المتعلقة بعملية التسجيل. وفي تاريخ 19/7/1427ه، صدر القرار السامي الكريم، بتسجيل ثلاثة مواقع هي : الحجر (مدائن صالح)، الدرعية القديمة، وجدة التاريخية، عقب ذلك زار ثلاثة خبراء من منظمة اليونسكو موقع الحجر (مدائن صالح)، ومراجعة ملف الترشيح قبل إرساله لمركز التراث العالمي، ومن ثم تقديم ملف ترشيح موقع الحجر بمدائن صالح، كأول موقع من المملكة مرشح للتسجيل في قائمة التراث العالمي في تاريخ 11/1/1428ه، لتتلقى الهيئة رد مدير مركز التراث العالمي باليونسكو، قبول ملف ترشيح الموقع ضمن المواقع المعروضة للتسجيل عام 2008م. وشاركت الهيئة العامة للسياحة والآثار في اجتماعات الدورة 32 للجنة التراث العالمي المنعقدة بمدينة كيبك بكندا في يوليو 2008م، ومن ثم أعلن انضمام “مدائن صالح” للقائمة خلال اجتماعات لجنة التراث العالمي يوم الاثنين 4/7/1429ه، الموافق 7/6/2008م . وللعودة إلى تاريخ موقع الحجر ( مدائن صالح) فقد أطلق علماء التاريخ منذ قديم الزمان على مدائن صالح مدينة “الحجر”، مستمدين ذلك من موقعها على طريق التجارة القديم الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية والشام، ومن أصحابه المعروفون بقوم ثمود الذين جاء القرآن بذكرهم بأنهم لبوا دعوة نبي الله صالح , ثم ارتدوا عن دينهم , وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية . وتحتوي مدينة الحجر على كمية هائلة من النقوش المعينية واللحيانية التي تحتاج لدراسة رموزها وفكها ، ومناطق العلا وديدان والخربية هي آثار لحيانية وأقدمها ربما يعود إلى 1700 سنة ميلادية, بينما مدينة الحجر، هي آثار المعنيين والتجار الثموديين الأوائل القادمين من جنوب الجزيرة العربية . وثبت لدى الباحثين أن الأنباط هم أول من استوطن (مدائن صالح ) , وقاموا بتعميرها ويرى الباحثون أن أصل الأنباط من الجزيرة العربية, وأسس الأنباط حينها، مملكة ضخمة امتدت من عاصمتهم البتراء (سلع) شمالاً إلى الحِجر (مدائن صالح ) جنوباً. وحدد من خلال النقوش النبطية المؤرخة في مدائن صالح العمر الزمني الذي ساد فيه حكم مملكة الأنباط ، إذ إنه يبدأ من بداية القرن الأول قبل الميلاد إلى منتصف القرن الثاني الميلادي ، والأنباط كما تقول كتب التاريخ، هم شعب قديم استقر في شمال غرب الجزيرة العربية، وكانت لغتهم شكلاً من أشكال الآرامية المتأخرة، مما يظهر تأثراً كبيراً بالعربية، وقبل ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع مئة سنة امتدت مملكة الأنباط من دمشق إلى البحر الأحمر. وتظهر بقايا مدائن صالح الأعمال الهندسية الرائعة التي اشتهروا بها، ويوجد بها أكثر من 131 قبراً ضخماً منحوتاً على صخور واقفةٍ منفردةٍ وسط عالم متموج من الرمال، وجزر من صخور الحجر الرملي المتحللة التي تآكلت وتموجت لتصبح أشكالاً منحوتة رائعة، ومن يزور هذه المدينة الأثرية بعد الظهر يبصر منظر الهضاب الذهبية, وخلفها من بعيد حرة عويرض بأرضها البركانية. وتقع اليوم مدينة الحجر أو مدائن صالح على بعد 22 كم شمال شرق مدينة العلا التابعة لمنطقة المدينةالمنورة عند دائرة عرض 4726 شمالاً ، وخط طول 5337 شرقاً. ورصدت وكالة الأنباء السعودية خلال جولة مندوبها في موقع “مدائن صالح ” قصر الصانع، الذي يعد مقدمة للعناصر الرئيسة لعمار الأنباط للقبور ، ويتمثل في شكلان مكونان من خمس درجات ، والنقوش في أعلى الباب ، وداخل القبر فتحات كانت توضع فيها جثث الموتى، وتقدم الخريمات ( منطقة قبور) عشرين ضريحًا من القبور المحفوظة في مدائن صالح ، علاوة على وجود العديد من الرموز التي يبدو أنها تربط أجيالاً من التصوير الثقافي المستعار من الأحباش والمصريين وغيرهم، في حين تُظهر أشكالاً تبدو كالغرفين (جسم أسد بأجنحة) برؤوس بشرية، وأشكالاً تشبه الورود مرسومة على زبدية استخدمت ضمن تقاليدهم في مصاحبة الجنائز. كما رصدت وكالة الانباء السعودية التي نشرت التقرير جبل “اثلب” الذي يقف بشموخ مُثير للدهشة، على الأفق في الشمال الشرقي من موقع مدائن صالح، ويحيط به فضاء واسع، ولهذا الموقع طريق ضيق يسمى ( السيق ) ، ونحت داخل الصخرة صالة كبيرة مفتوحة تُسّمى الديوان ، ومحاطة بعمودين وبعض المصطبات الحجرية على الجدران الثلاثة الداخلية ، وهذه الغرفة باردة بشكل لطيف إذ تهب النسمات العليلة هناك دومًا ، ولأن واجهتها شمالية فلا تدخلها الشمس ، ويوحي المكان بشعور عميق بالأمن والهدوء ، مما يجعل المكان مهيباً بشكل كبير ، ويمنح تسلق جبل إثلب منظراً خلاباً على مدائن صالح. ويوجد بالمدائن “قصر البنت” الذي رسمت عليه حيتان داخل شكل مثلث لتمثل حارس القبر ، وهو مثال للتأثير اليوناني على الفن النبطي ، وتم التوقف فجأة عن إكمال بناء هذا القبر، مما يوحي بتقنيات البناء الذي كان من الأعلى إلى الأسفل ، وهناك وردية على هذا المدخل ونظرائه تمثل طبقاً مزخرفاً يستخدم في المناسبات الدينية، مما يدل على أن هذه المباني قبور . ويعد “القصر الفريد” أشهر المقابر النبطية في الحجر, ومن أجمل المقابر النبطية عامة إذ يتميز بواجهة شمالية كبيرة جداً , وسمي بالفريد لانفراده بكتلة صخرية مستقلة , وكذلك لاختلاف واجهته الكبيرة عن المقابر الأخرى في ” مدائن صالح ” , ويلاحظ دقة النحت وجماله في الواجهة , وعلى الرغم من هذا الجمال إلا أن القصر الفريد غير مكتمل النحت , حيث إنه لم يكتمل العمل في أسفل الثلث الأخير , و قد بني هذا القصر لشخص اسمه حيان بن كوزا .