ارتجاج خفيف ولطيف بأثر ناعم وهش. دوار تقع معه في العذوبة الغامضة تنسل إلى الجلد مثل التنميل لا تعرف معه هل أنت على حافة حلم أو في يقظة وشيكة؟.. التباس حلو تحبه وتمضي، مسحورا، نحو أبواب تنفتح دون أن تمس أقفالها لتظل ممسكا بيده وقد طابت اللعبة في تكاثر الأبواب واندلاع أسرارها شرارات تحررك من اليد ومن ظلها. تركض وحدك ووحدك تحفن سرابا مبللا ومضيئا، ولا تحفل أأصبت وهما أم حقيقة. أنت المصاب بالدوار وبالحبر والأوراق. هو درس المتعة الذي لا تدري كيف الخروج من قاعته ولا تريد، ثمة ما هو مؤجل وتسعى ألا يفوتك. تتعلل وتعيد القراءة والقراءة من أجل مخبوء يشع ولا سلطة تستطيع استدعاءه.. من أجل مجهول لا تفتأ دوائره في الاندياح والاتساع كلما رميت حجرا في بركته. هي رحلة من النعمى والجمال والدهشة مع محمد عبدالنبي ومجموعته القصصية "كما يذهب السيل بقرية نائمة" (دار ميريت، القاهرة - 2014) وفي محطات ممتلئة عددها تسع محطات، وعندما تحل بها تكتشف أنها بلا عدد وأن الترقيم سرعان ما يذوب طية جرم هائل اسمه الإبداع وحسب. ولي أن أقف عند واحدة من قصص الكتاب: "بحث صغير حول المظلة" التي يلتحم فيها الواقع باللاواقع والمعقول باللامعقول والعادي بالغريب والمألوف بالعجيب، بلا تنافر، بل بتقاطع وتداخل وبصنعة جمالية تناور على الحدود والمابين وتطمسهما معا في مزج وتضفير، واقتراب تنحل معه العرى لتختلط العوالم. قدم في اليابسة وأخرى في البحر، والإيقاع في منتهى الإتقان وفي قبضة تنبئ عن الإحكام والوثوقية بأداة العمل. شاب يرغب وبشدة في التخلص من تركة خاله التي تشغل شقة تخصه ويريد استغلالها في عمله بعد إفراغها من أكداس التركة المتراكمة التي عاد بها الخال من تطوافه حول العالم وأودعت بعد وفاته في هذه الشقة. التركة مجموعة كبيرة تبلغ المئات من المظلات عرضها الشاب للبيع عبر شبكة النت، ولقي العرض قبولا وموافقة فورية للشراء من امرأة باريسية جميلة رغم تقدمها في العمر لم تطلب إرسالها إليها بريديا وفضلت أن تأتي وتستلمها في القاهرة. وبين العرض ورغبة الاستلام والحضور إلى مصر، تجري المراسلات ومعها تنهمر الحكاية وتندس في ظلالها سيرة الخال الملفوفة بالغرابة والجنون وقصة معشوقته الباريسية التي انتحرت غرقا في نهر السين وهي تعتمر مظلة سوداء طارت وقت الحادثة، ومرويات المظلات النائسة بين الواقعي والعجائبي، وفي الجانب الآخر وبالموازاة كانت المرأة الباريسية تفضي بحكايتها ونشأتها في دار للأيتام مجهولة الأبوين وامتهانها العمل عارضة أزياء، ووجها إعلانيا لترويج المنتجات التجارية وكان أولها عن مظلة. الإفشاء المتبادل يقود إلى المناطق العميقة ويشعل الذاكرة للاتصال بالتاريخ الشخصي بقصد تحيينه والاستحواذ عليه والاندماج به أخيرا على نحو سحري استنساخي. المرأة الباريسية تنظر إلى المظلات كإشارة تلحقها بقصتها وتنظر إلى معشوقة الخال المنتحرة كجذر تنتمي إليه ويحقق هويتها المفقودة، فيما الشاب يرى في ذاته استئنافا لحياة الخال الذي يشعر به ساكنا في جلده ويجتهد في الخروج. كأنما هناك نداء إلى وسيطين ينجذبان إلى بعضهما ويعيدان عبر جسديهما الخال ومعشوقته إلى الحياة، والمظلات هي الصيغة المواتية لإتمام العمل الذي لم يقدر أن ينجزه الخال في حياته وهو يبحث عن مظلة سحرية تعيد إليه معشوقته، ولذلك كان تجميعه المستمر للمظلات أشكالا وألوانا يغرفها مرة من الواقعي المألوف ومرات من الغرائبي والعجائبي. وهنا تتبدى العملية الإبداعية عند الكاتب برهافتها وشفافيتها وفي الوقت نفسه عمقها وأصالتها، فالمظلات التي تتحدر من الواقع تحوطها النهاية ويتحوشها الموت.. ويجسدها النص في مشهدية سينمائية يلتقطها الشاب خارج مصر حين زار تونس ويلفي نفسه قبالة يوم ماطر تخضه ريح عاتية فتتطاير المظلات من أيدي حامليها ويلعب بها الهواء بقسوة لتسقط ممزقة منطفئة شأن حيوات أزهقت توا، وفي هذا دلالة كثيفة - إذا ما أضفنا إليها المكان الخارجي كعنصر يضاعف من أثر المشهد وبلاغته - تحيل على الخال وحكاية الفقد الباريسي. أما المظلات التي تصعد إلى العجائبي فهي قائمة في التعدد وعدم الاستنفاد واللانهائية بدلالة التكرار والفراغ المحتشد بالمحذوف فينبئ عنه في النقاط الثلاث "ومظلة... ومظلة... ومظلة..."، وقد جرى التأكيد على صفتها في مقطعين منفصلين من النص بقصد مضاعفة حضورها والتبئير على أولويتها ودورها القادم الذي اطلع بتنفيذه الشاب والمرأة الباريسية وقيامهما بمغامرة المجهول في الشقة، حيث كانت غابة المظلات العجائبية في انتظارهما؛ يلجانها تأهبا لتظهير أسطورة الخال ومعشوقته التي تعيش داخلهما وتريد العودة. يخطوان نحو سيرورة التبدل ونهائيته وفي تدوير يقطع باستئناف الحياة والعشق.