قضيت ما يقارب أربع ساعات قبل ثمانية أعوام وأنا أجوب أحياء مدينة دبي بحثاً عن أسرة إماراتية تستحق زكاة الفطر، سألت واستفسرت وبحثت ولم أتمكن من العثور على أسرة واحدة. دفعت بكيس الأرز الذي كان بحوزتي إلى مجموعة من العمال الأجانب الذين يسكنون مجمع إحدى الشركات. الحال في المملكة مختلف تماماً، بل إن هناك سوقاً سوداء لزكاة الفطر التي يبيعها مستلموها مقابل مبالغ أقل للمحال نفسها التي تبيعها لغيرهم. نجاح الإمارات في محاصرة فقر المواطنين وعلاجه لم يكن نتيجة جهود شخصية أو عمل غير منظم. تعمل المنظمات غير الربحية ومؤسسات الخدمة العامة والجمعيات الخيرية مع كل أسرة بشكل شخصي. يتم توظيف النساء في وظائف تناسبهن أو إعانتهن على تأسيس أعمال تجارية بسيطة كالبسطات أو المشاغل أو طهي الطعام. يوظف الأبناء في مواقع تناسبهم ويعمل المشرفات والمشرفون الاجتماعيون مع الأسر ليضمنوا تمكن الأسرة من الاعتماد على الذات في إيجاد موارد اقتصادية ملائمة لاحتياجهم. اتصلت إحدى السيدات السعوديات بعضوة في جمعية أهلية غير رسمية طالبة أن تساهم في عونها لتدبير شؤون حياتها، هذه الجمعية أنشأتها سيدات راغبات في دور أكثر فاعلية في محاربة الفقر في مجتمعهن. طلبت العضوة من المتسولة أن تزورها لتتعرف على حالتها واحتياجها كون اللجنة لا تقدم سوى مساعدات عينية، فرفضت المتسولة وقالت: هل تريدين إذلالي بهذه الصدقة؟ حاولت العضوة، عبثاً، توضيح أسلوب الجمعية في تقديم المساعدات للأسر، انتهت المكالمة برفض شديد من المتسولة، التي يبدو أنها تتسول لغير حاجة. يعتقد البعض أن التسول مؤشر لمستوى الفقر، وهو اعتقاد غير صحيح، على الأقل في المملكة. ينتشر التسول عند إشارات المرور والمساجد وأمام المطاعم وفي المتنزهات والجامعات، بل ظهر مجموعة من المداحين الذين يسألون عن المسؤولين والمقتدرين مالياً وينشدون قصائد المدح فيهم بهدف التربح، وهذه حالة تنتشر حتى بين علية القوم، فالشِّعر كان عند العرب وسيلة للتكسب منذ القدم، وأراه طريقة للتسول الممجوج الذي يجب أن يمنع في كل مكان مصداقاً لقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب". التسول أصبح مهنة من لا مهنة له، بل انتشر ليمتهنه بعض كبار المسؤولين للحصول على منح الأراضي والشرهات وتحسين الأوضاع بطريقة تخالف النظام. يعني هذا أن الحرب ضد الفقر يجب أن تبدأ من الأعلى بحيث يمنع التربح من الوظيفة بأي طريقة كانت. تمنع المنح التي يحصل عليها كبار الموظفين والشرهات والإعانات التي تقدم لغير مستحقيها. يمنع دفع أي مبالغ مقابل قصائد الشعر والمديح في الحفلات والمناسبات المختلفة. إذا منعنا الكبار من مزاحمة الفقراء على الهبات والعطايا والمنح والصدقات نكون قد بدأنا مشوار الألف ميل. الحل الأهم هو الذي يتعامل مع الأسر الفقيرة فعلاً، التي ينطبق عليها قوله تعالى: "لا يسألون الناس إلحافاً". يجب أن نؤسس جمعيات غير رسمية يقودها رجال وسيدات معروفون بنشاطهم في المجال، ولا أنسى أن أؤكد أن السيدات يمكن أن يكنَّ أقرب لتحقيق نتائج فاعلة وأكثر واقعية من الرجال بحكم طبيعة المجتمع المحافظة، هذه الجمعيات يجب أن تعمل بشفافية وتنظيم يحقق التعامل الشخصي مع كل محتاج. تقوم الجمعيات الخيرية بنشاط جيد، لكنه قاصر، بسبب سوء التنظيم وانعدام المختصين في الكثير منها واعتمادها على إبقاء الفقير فقيراً من خلال تقديم المواد الغذائية التي يعيش عليها الفقراء طول حياتهم. كما تعاني مكاتب الشؤون الاجتماعية من الوقوع تحت طائلة المنتفعين ومدَّعي الحاجة. قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن ما لا يقل عن 30 في المائة من المستفيدين من الضمان غير مستحقين فعلاً. ثم ما جدوى تقديم مبلغ ضئيل لمحتاج دون العمل على أن يستغني المستفيد من الضمان عن هذه المبالغ الضئيلة؟ نشأت صناديق إقراض صغار المستثمرين وبنك التسليف لغرض شريف هو إعانة المحتاج على تأسيس عمل يغنيه عن الحاجة، لكن التنفيذ كان قاصراً والنجاحات محدودة، بسبب عدم التنظيم والمتابعة وتجذر البيروقراطية الحكومية التي تنشغل بنفسها مع مرور الوقت عن إنجاز عملها المطلوب. يمكن أن تستفيد هذه الجمعيات من فكرة بنك الفقراء الذي أسسه الدكتور محمد يونس وحقق نجاحات كبيرة. أدعو إلى أن تجمع كل الموارد التي توجهها الدولة والجمعيات الخيرية والمواطنون في سلة هذه الجمعيات التي يديرها أشخاص يعتنون بالتخلص من الفقر. وتوضع لها خطة محكمة توفر دخلاً معقولاً للأسر من خلال إيجاد موارد ذاتية تمنحهم الاستقلال وتغنيهم عن الحاجة إلى أيٍ كان. تنشر هذه الجمعيات على خريطة المملكة وتدار بأسلوب القطاع الخاص، وتكون لها ميزانيات وقوائم مالية مراقبة ومحكمة من قبل الدولة وشركات مراجعة قانونية. إن الفخر بزيادة أعداد المستفيدين من الضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية إشهار للفشل. يجب أن يكون الهدف من جميع الأنشطة الاجتماعية سواء أكانت مالية أو عينية أو داعمة للأسر المحتاجة إخراج هذه الأسر من دائرة الفقر، وبالتالي تقليص أعداد المعتمدين على هذه الإعانات وليس زيادتها. ولعل دخول شهر رمضان المبارك يكون حافزاً لدراسة أمر كهذا. نقلا عن الاقصتادية