أمضى النصفَ الأولَ من الجلسةِ وهو يتحدثُ عن الحرياتِ وحقوقِ الإنسانِ ومحاربةِ الظلمِ والاستبداد، مؤكداً في الوقت ذاته أن الربيعَ العربيَ ما كان ليحدثَ لولا أن بعضَ الأنظمةِ قد ولغت في دماءِ شعوبِها واستولت على خيراتِها واستأثرت بمواردِها، بعد أن قيَّدت حرياتِها وكبتت أصواتَها وكبَّلت عقولَها؛ فحرمتها حقها في حريةِ الرأي والتعبير، والشراكةَ في الوطنِ والثروةِ، حتى انتهت إلى أن تفرضَ إرادتَها على الشعوبِ وتجردَها من إنسانيتِها، متسلحةً بأجهزةِ أمنٍ قمعيةٍ وقوانين طوارئ تُبيحُ للحكوماتِ أن تفعلَ ما تريد، في الوقت الذي تريد، لأي شيءٍ تريد، مُحصيةً على الناسِ أنفاسَهم وعارفةً عنهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسِهم، وقد سهَّل من مهمتِها أن أحاطت نفسَها بسورٍ عظيمٍ من النصوصِ الدينيةِ على أفهام البوطي وحسون وأمثالِهم، منهياً حديثَه بالقول: إنه فقد الأملَ في إمكانيةِ إصلاحِ هذه الأنظمةِ منذ التضحيةِ بالرئيسِ صدام حسين في يوم العيدِ من غيرِ مراعاةٍ لأدنى حقوقِ للإنسان. الواقع أنه قال مثلَ هذا الكلامِ وأعمقَ من هذا الكلامِ، حتى ملكَ عليَّ عقلي كلَه وقلبي كلَه، لدرجةِ أني شعرتُ أن بيني وبينه توافقاً فكرياً أو لكأنه اطَّلعَ على ما في قلبي وقرأ أفكاري فعبر عما كنتُ أودُ التعبيرَ عنه، لكن ما إن انتصفت الجلسةُ وفتح أحدُهم حواراً حولَ تاريخِ المذاهبِ والطوائفِ الإسلاميةِ، وجاءت سيرةُ خالدٍ القسري ومقولتُه الشهيرةُ للناسِ في خطبته يوم النحر: (أيها الناس: من كان منكم مضحياً فليضحِ بارك الله في أضحيته، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ثم نزل فذبحه). نظرت إلى صاحبي فإذا به شخص آخرَ قد زال عنه همُه وذهب عنه غضبُه وانشرح صدرُه وانفرجت أساريرُ وجهِه، فترحم على خالدٍ القسري مثنياً عليه اقتصاصَه من أهلِ الابتداعِ والزندقةِ، متحسراً على ذلك الزمن، عندما كان الإسلامُ عزيزاً وأهلُه متمسكين به، حيث لا منظمات حقوقِ إنسانٍ ولا حريات ولا قوانين ولا أنظمة، حيث لا ليبراليين يتفلسفون ولا إصلاحيين يُطالبون، حينذاك كان أميرُ المؤمنين يصدرُ أوامرَه من تلقاءِ نفسِه لا تأخذه في الله لومةَ لائم! الغريبُ أنه كان يدافعُ عن خالد القسري بالحماسةِ ذاتها التي كان يهاجمُ بها تلك الأنظمةَ التي يعتقد أنها مُغرِقةٌ في الفسادِ إلى الحدِ الذي فقدت معه شرعيتَها بسبب انتهاكِها الحرياتِ وحقوقِ الإنسان! من غير أن يجدَ فيما يقول أدنى تناقضٍ أو ازدواجيةٍ، وبينما هو سادرٌ في تعدادِ مناقبِ خالد القسري سائلاً الله أن يجزيَه عن المسلمين خيرَ الجزاء!، قاطعته بالقول: لستُ أُنكر أن ما فعله الجعدُ بن درهم كان خطأً فادحاً وذنباً عظيماً، لكنه لا يبررُ تلك الجريمة الفظيعةَ التي ارتكبها خالدٌ القسري، وإني أعتقد أننا باجترارِ مثل هذه الحوادثِ من التاريخ وإدخالها في مناهجنا وترديدِها على المنابرِ باستمرار تفاخراً بمن ارتكبها، لهو بمثابةِ الترويج للاستبداد وإعادة إنتاج الطغاة، ونحن بذلك نهدم الدينَ من حيث نريدُ الدفاعَ عنه، ولو كان الأمرُ بيدي لاستبعدتُ مثل هذه الرواياتِ من أيِ مناهجَ دراسيةِ، لأنها لم تثبت من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأنها تتناقضُ مع مبادئ عظيمةٍ جاء بها الإسلامُ كالرحمةِ وحفظِ النفس، فضلاً عن أنها ترسِّخ قيمَ الظلمِ والاستبدادِ، ثم إنني والله أستغربُ من هذا التناقضِ في مبادئِك؛ فأنت تدعو إلى الحرياتِ وحقوقِ الإنسانِ من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تستسيغُ أن يُذبَح إنسانٌ بهذه الطريقةِ البشعةِ في يومِ العيدِ وفي المسجدِ وأمام الناس! فلماذا تحرِّم على غيرِك ما ترتضيه لنفسِك، أم أن الظلمَ لا تراه ظلماً إلا حين يكونُ موجهاً من الآخرين إليك، وعدلاً فيما عدا ذلك، وقتذاك اعتدلَ في جلسته وأخذ وضعَ الاتكاءِ فعادت تعابيرُ وجهِه إلى ما كانت عليه في بدايةِ الجلسة، ثم قال: يا أخي.. اتق الله! بل والله لو كنت مكان خالدٍ لفعلت مثل ما فعل، ألا تدري أن الجعدَ بن درهم مبتدعٌ ضال، قال بخلقِ القرآن، ونفى صفاتَ الله تعالى، قلت: بلى، ولكن حسنَ النيةِ لا يبررُ سوءَ العملِ، عندها استيقنت يقيناً لا يخالطه شك أن بعضاً من الذين يرفعون شعارَ الحريةِ هم أشد استبداداً من الجلادين أنفسِهم، ولو آلَ الأمرُ إليهم لمزقت سياطُهم جلودَ من يرفعون هذا الشعار!