يشير الدكتور عمرو شريف في كتابه الماتع (رحلة عقل) إلى مفهومين أساسيين في النقاش الدائر بين علماء وفلاسفة الإلحاد وبين نظرائهم من المؤمنين بوجود الإله وهما: مفهوم البرهان الكوني أو ما يسمى بالتصميم الذكي والثاني هو المبدأ البشري الذي يعني أن الكون قد تم بناؤه على هيئة تجعله ملائما تماما لنشأة الإنسان. وينقل عمرو شريف عن العلماء أقوالا مثل (يبدو أن الكون قد تم تفصيله ليكون على مقاس الإنسان) و( يبدو أن الكون يعلم أننا قادمون ). سأذهب بالقارئ الكريم في رحلة موجزة حول المبدأ البشري وهذه العلاقة الحميمة بين الكون والإنسان وسأحاول ربطها ببعض الظواهر الفكرية التي تمر بها المرحلة الثقافية المحلية. ( إن وجود الكون على هذه الهيئة يتطلب ضبطاً دقيقاً لعشرات الثوابت الفيزيائية المستقلة عن بعضها مثل كتل الجسيمات تحت الذرية وشحناتها وقوى التجاذب والتنافر بين الأجرام الهائلة وسرعة الضوء، كذلك ما يتعلق بكوكب الأرض مثل قطره وجاذبيته وميل محوره وسرعة دورانه وخصائص الماء وغيرها مما يتناسب مع نشأة الحياة واستمرارها ونشأة الإنسان، بل إن المبدأ البشري يزداد حجية بسبب غزارة التوافق مع احتياجات الكائنات الحية والإنسان. والمبدأ البشري يعرف بالتفسير الغائي للكون للإجابة على السؤال لماذا؟ وهو لا يتعارض مع التفسير الآلي للإجابة على السؤال كيف ؟ .فكل ما حولنا تحكمه الغائية والآلية). انتهى بتصرف من المصدر أعلاه. وللمبدأ البشري صور أخرى نلمحها في كثرة التعرض للكون وظواهره في القرآن الكريم وربطها بالإيمان بالله ربطا يستنقذ الإنسان من غربة الوجود ووحشة التفرد. فالكون مثلا ينسجم مع الإنسان في استيعابه لحقيقة الفناء الدنيوي ذلك أنه ووفقا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية وهو أكثر القوانين الفيزيائية استقرارا فإن الكون ومنذ لحظة الانفجار العظيم يتجه للبرودة والتعادل الحراري وهي الظاهرة المسماة (الموت الحراري للكون)، إن هذا التلاقي في المصير بين الكون والإنسان يصحح كثيرا من التصورات لدى الإنسان خاصة في رحلته نحو الإيمان. لقد جاء الإسلام بمنهجية رائعة تمنع (اختطاف الكون وظواهره) لصالح الوهم والخرافة والمصالح الخاصة أو لصالح المادية وتضعه في حالة متوازنة بين العلم والإيمان لتستمر هذه الصداقة بين الكون والإنسان، فالمتأمل لمعالجة الإسلام لحادثتي الخسوف والكسوف يدرك ذلك حين يشير الرسول عليه الصلاة والسلام أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ويكون التوجيه بالتفاعل مع هذا الحدث الكوني عبر التسامي الإيماني بالعبادة. لقد تأثر العرب فيما يبدو بمن سبقهم من الأمم الذين يربطون بين هذه الحوادث وبين وقائع شخصية، لذا جاء الدين ويجيء العلم في العصر الحديث ليرفعا عن هذه الظواهر قداسات زائفة تضر بروح الإنسان ووعيه، إن اختطاف الكون أمر مستمر فهذا الخيال العلمي رغم أهميته التجريبية إلا أنه يجير للدعاية لسيادة متوهمة وما هوليود عنا ببعيد. إن الحاجة ماسة لفلسفة العلم ولثقافة العلم في مجتمعنا كتقديم مهم للإفادة من المنتج العلمي وتسخيره بطريقة صحيحة، لكن الحالة لا تبشر بخير، فالفلسفة العلمية تقع ضحية صراع التيارات فهذه الفكرة الليبرالية المحلية تحفل في جانب منها بالنظريات العلمية الحديثة لمعاندة الأديان وإشاعة الإلحاد وتوظف ذلك لمقابلة المنجز الديني المتمثل بالإعجاز العلمي في القرآن، الذي يلقى أيضا اعتراضات من داخل الكيان المتدين بسبب الإغراق فيه. ما زالت طريقة تفكير -لها وجود ظاهر- تريد إعادة المواجهة سيرتها الأولى من الصراع بين العلم والكنيسة، وهذه المناقلة للحالة الإسلامية ستشهد صراعا مستقبليا عند الأجيال القادمة إن لم يتدارك الأمر مبكرا. أما ثقافة العلم فإنها تلقى ممانعة بسب أعباء اجتماعية واقتصادية وسياسية تجعلها تتأخر في قائمة الاهتمامات، فالعلم مازال في حس كثيرين يخدم الحصول على الوظيفة بينما لا يغير من طرائق التفكير ولا يرسم معلما حضاريا للمستقبل، ولعل نقاشنا عن المبتعثين كمثال ينصب أغلبه حول التساؤل عن بطالتهم المتوقعة لا عن عطائهم في العلم والنهضة. هذا ويساهم الإعلام كثيرا في تسطيح هذه المعاني، ولا يوليها حقها من الاهتمام، ومازال الفكر العلمي مطمعا بعيد المنال أمام هذا السيل الهادر من الترفيه، ولعل قناة الشباب الجديدة في التليفزيون السعودي تتولى زمام المبادرة وتصنع للثقافة العلمية نصيبا وافرا من برامجها تصحيحا للأخطاء السابقة.