في عصر مثل هذا اليوم، قبل 11 سنة فقط، عدت إلى منزلي مبكراً بمقاييس تلك الأيام حين كان حلول الظلام هو اللحظة المناسبة لمغادرة العمل دون إحساس بالذنب ..! فوجئت أن أحداً من العائلة لم يتصل بي لينقل لي فداحة ما يحدث في نيويورك، رغم أن أحداثاً صغيرة تنتقل إليّ كما تسري النار في الهشيم. كان التليفزيون ينقل الحدث العالمي الضخم على الهواء، لكنني حين انضممت إليهم لمتابعة الحدث اكتشفت أن اختلاط الواقع بالخيال يجعل الجميع حائراً أمام الاعتراف بالحقيقة وقد يتردد الناس عن تبادل الأخبار التي لم يتم الجزم بصحتها أو كذبها. الأحداث الضخمة تجعل المرء قانطاً ينتظر قوة موازية تؤكد أن ما يحدث هو الحقيقة ولا شيء آخر. السينما الأمريكية بتأثيرها الساحق تقدّم في هذا الصدد أسوأ المقدمات، فكم مرة شهدنا المدن الأمريكية ومبانيها الضخمة ومعالمها الساحرة وهي تنهار وتندثر عبر عشرات الأعمال السينمائية من «كينج كونج» إلى «اليوم التالي» إلى ما لا يحصى من الأعمال الدرامية والألعاب الإلكترونية وروايات الخيال العلمي حيث الكائنات الأسطورية تسطو على المدن وتحيلها رماداً. كثيرون ظنوا أن ما يحدث هو لقطات دعائية أو تعريفية بفيلم يتم التخطيط لعرضه قريباً، وفي هذا جزء من الصدمة المريرة التي جعلت الخيال والحقيقة يرتطمان ببعضهما فلا يعرف المشاهد كيف استحال الخيال واقعاً أسودَ. ما أسهل أن نكره أمريكا، وأن ندعو عليها في صحونا ونومنا، خاصة وأن تصرفاتها الباطشة والدموية في أكثر من قارة وعبر حقب تاريخنا قد أوقعت الآثام على قميصها، ولكن ما أبشع ذلك العقل الذي يتوهم أن إنزال العقوبة ببضعة ألوف من المواطنين العزّل في ناطحتي سحاب في مدينة أمريكية سيخرجنا من وكر هزائمنا التاريخية أو أنه سيبشرنا بمستقبل أخضر. بعد كل هذه السنوات من الهجاء، لماذا لا نتوقف أمام صفحات أمريكا المشرقة، لماذا لا نتحدث عن دستورها وعن رموزها المؤسسين الذين جعلوا من هذه الخلطة العجيبة من الأقوام والجنسيات والديانات المتصارعة أمة ما زالت -رغم الانهيارات الاقتصادية- تقود العالم، لماذا لا نتحدث عن الحريات المقدسة بكل أنواعها وتجلياتها، وحيث القانون هو السيد المطلق، لماذا لا نتحدث عن الفلسفات والفنون والآداب والنظريات الفكرية الكبرى التي ولدت هناك أو هاجرت إلى هناك لتجد البيئة الحاضنة لتنمو وتكبر على ضفاف العالم، لماذا لا نعترف أنها أرض العلوم والتقنيات والصناعات حيث نجاهد كل عام لإلحاق ألوف مبتعثينا واختصاصيينا وباحثينا بجامعاتها ومراكزها، لماذا لا نقول إنها الوطن الذي علّم الأمم الأخرى عظَمة المواطن وقيمته السامية، لماذا لا نعترف أنها دولة الحقوق، وأن منتجاتها الثقافية والتقنية ما زالت تعصف بالعالم؟ لماذا لا نتعلم منها قيم العمل والإنتاج والمسؤولية والمساءلة والعدالة؟ أمريكا ليست الدولة المثلى بالقطع، لكن من قال إن القوى المتطرفة يمكن أن تضمن السلام أو الأمن لأحد؟