من أيام الجاهلية أدركت العرب هذه الحكمة العميقة عن عبثية الحرب فأنشد شاعرهم (امرؤ القيس) يقول: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها غدت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء جزت شعرها وتنكرت مكروهة للشم والتقبيل معنى هذا الكلام الجميل والحكيم أن الحرب تبدأ حلوة لذيذة مشجعة ولكن بعد أن يبرد الدم وتهدأ الخواطر يندم الجميع ولكن بعد دفن أحبابهم في مقابر لا نهاية لها. هذا الكلام يصدق على الوضع في سوريا وليبيا أيضاً وضحايا تونس ومصر واليمن، ولكن يبدو أن البشر فيهم عرق جنون كما يقولون. الحرب إفلاس أخلاقي وجنون وجريمة، حيث يقتل الإنسان فلا يقدم لمحكمة بل تعلق النياشين على صدور الأبطال، عفواً من المجرمين الأشد إجراماً مثل بيرشينج الأمريكي الذي دمر الجنوب في الحرب الأهلية، وأمثاله كثيرون كثيرون. في حرب عام 1870 والأولى العالمية في أوروبا صرخ الجميع في باريس الزحف إلى برلين ورشت النساء الورد على رؤوس الرجال الذاهبين لساحات الحرب وفعلت النساء الألمانيات نفس الشيء، وحالياً أوروبا تتحد بدون زعيق المجانين بل بجهد العقلاء السلاميين. كل هذا الكلام أسوقه من أجل تثبيت حقيقة ينساها الناس في غمرة حماس الحرب أن البشر تعبوا كثيراً حتى وصلوا إلى الحقيقة التي تقول إن العنف يستجر العنف، والدم يفجر الدم، والكراهية تقود لمزيد من الكراهية والحقد. وما يجري في سوريا حوّل الساحة إلى مجانين يتقاتلون من كلا الطرفين. وبالطبع فمن يتحمل الوزر الأكبر لدفع الناس لحفلة الجنون هذه هو النظام بالقتل والقتل ثم القتل والقتل. إن الدم يتفجر في سوريا أنهاراً، وأذكر بدايتها وكأنها أول الغيث قطرة حين توتر الجو في سوق الحريقة في دمشق بضرب مواطن على يد شرطي، ما استدعى وزير الداخلية أن يأتي بنفسه ويهدئ النفوس. كان لهذا المراهق السياسي أن تكون عنده الحاسة التاريخية فيسعى وبصدق لتغيير الأوضاع، ولكن هل يمكنه ذلك؟ في تقرير مجلة در شبيجل الألمانية تحدثت عن الحلقة الداخلية من العصابة التي تحكم سوريا أنها بيد الميدوسا الغرغونية، عفواً زوجة الراحل الأسد الكبير المدفون في ضريح كبير في قرداحة. يبدو أن العصابة الأسدية درست بدقة ما يجري في تونس ثم مصر وليبيا واليمن، واتخذت قراراً بإطفاء الثورة في سوريا بطرق رأتها ذكية جداً وهي القتل ثم القتل ثم القتل. إلا أن الدم لون سوريا كلها بلون أحمر قاني لا يسر الناظرين ورائحته تسد الأنف. في النهاية سيندم الجميع على هذا المسلك من السادية العميقة. حتى لو انتصرت الثورة المسلحة فالنفوس التي اعتادت القتل لا تبق تلك النفوس المشبعة بالروحانية، بل بالحقد والكراهية، ولن يقف مستنقع الدم عند القضاء على هذا المجنون وعائلته في سوريا، بل سيمتد الأمر مثل حريق الغابة حتى يطفئ نفسه بنفسه، ولكن بعد التهام آلاف الهيكتارات من الغابة.